من الصوت العظيم ، الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات ، الصم الشامخات ، وتقف له الطيور السارحات ، والغاديات ، والرائحات ، وتجاوبه بأنواع اللغات. وفي الصحيح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقرأ من الليل ، فوقف فاستمع لقراءته ، ثم قال صلىاللهعليهوسلم «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» (١).
وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا وتر أحسن من صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، ومعنى قوله تعالى : (أَوِّبِي) أي سبحي ، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد ، وزعم أبو ميسرة أنه بمعنى سبحي بلسان الحبشة ، وفي هذا نظر ، فإن التأويب في اللغة هو الترجيع ، فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها.
وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي في كتابه ـ الجمل ـ في باب النداء منه (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) أي سيري معه بالنهار كله ، والتأويب سير النهار كله ، والإسآد سير الليل كله ، وهذا لفظه ، وهو غريب جدا لم أره لغيره ، وإن كان له مساعدة من حيث اللفظ في اللغة ، لكنه بعيد في معنى الآية هاهنا ، والصواب أن المعنى في قوله تعالى : (أَوِّبِي مَعَهُ) أي رجعي مسبحة معه كما تقدم ، والله أعلم.
وقوله تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) قال الحسن البصري وقتادة والأعمش وغيرهم : كان لا يحتاج أن يدخله نارا ولا يضربه بمطرقة ، بل كان يفتله بيده مثل الخيوط ، ولهذا قال تعالى : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) وهي الدروع قال قتادة ، وهو أول من عملها من الخلق ، وإنما كانت قبل ذلك صفائح. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا ابن سماعة حدثنا ابن ضمرة عن ابن شوذب قال : كان داود عليهالسلام يرفع في كل يوم درعا فيبيعها بستة آلاف درهم ، ألفين له ، ولأهله ، وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحواري (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) هذا إرشاد من الله تعالى لنبيه داود عليهالسلام في تعليمه صنعة الدروع وقال مجاهد في قوله تعالى : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) لا تدق المسمار فيقلق في الحلقة ، ولا تغلظه فيقصمها واجعله بقدر ، وقال الحكم بن عيينة : لا تغلظه فيقصم ، ولا تدقه فيقلق ، وهكذا روي عن قتادة وغير واحد ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : السرد حلق الحديد. وقال بعضهم : يقال درع مسرودة إذا كانت مسمورة الحلق ، واستشهد بقول الشاعر [الكامل] :
وعليهما مسرودتان قضاهما |
|
داود أو صنع السّوابغ تبّع (٢) |
__________________
(١) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب ٣١ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢٣٥ ، ٢٣٦.
(٢) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في سر صناعة الإعراب ٢ / ٧٦٠ ، وشرح أشعار الهذليين ١ / ٣٩ ، وشرح المفصل ٣ / ٥٩ ، ولسان العرب (تبع) ، (صنع) ، (قضى) ، والمعاني الكبير ص ١٠٣٩ ، وتاج العروس (صنع) ، (قضى) ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٣ / ٥٨.