ونهارا.
(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) وقرأ آخرون بعد بين أسفارنا وذلك أنهم بطروا هذه النعمة كما قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد ، وأحبوا مفاوز ومهامة يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحرور والمخاوف ، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ، مع أنهم كانوا في عيش رغيد في منّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة ، ولهذا قال لهم : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [البقرة : ٦١] وقال عزوجل : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص : ٥٨] وقال تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل : ١١٢]. وقال تعالى في حق هؤلاء : (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي بكفرهم (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي جعلناهم حديثا للناس وسمرا يتحدثون به من خبرهم ، وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء ، تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا ، ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا : تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ ، وتفرقوا شذر مذر.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال : سمعت أبي يقول : سمعت عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ قال : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ ـ إلى قوله تعالى ـ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) وكانت فيهم كهنة ، وكانت الشياطين يسترقون السمع ، فأخبروا الكهنة بشيء من أخبار السماء ، فكان فيهم رجل كاهن شريف كثير المال وأنه أخبر أن زوال أمرهم قد دنا وأن العذاب قد أظلهم ، فلم يدر كيف يصنع لأنه كان له مال كثير من عقار ، فقال لرجل من بنيه وهو أعزهم أخوالا : يا بني إذا كان غدا وأمرتك بأمر فلا تفعله ، فإذا انتهرتك فانتهرني ، فإذا لطمتك فالطمني.
قال : يا أبت لا تفعل إن هذا أمر عظيم وأمر شديد ، قال : يا بني قد حدث أمر لا بد منه ، فلم يزل به حتى وافاه على ذلك ، فلما أصبحوا واجتمع الناس قال : يا بني افعل كذا وكذا ، فأبى فانتهره أبوه ، فأجابه فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه فلطمه ، فوثب على أبيه فلطمه ، فقال : ابني يلطمني؟ علي بالشفرة ، قالوا : ما تصنع بالشفرة؟ قال : اذبحه ، قالوا تريد أن تذبح ابنك؟ الطمه أو اصنع ما بدا لك ، قال : فأبى ، قال : فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك ، فجاء أخواله فقالوا : خذ منا ما بدا لك فأبى إلا أن يذبحه ، قالوا : فلتموتن قبل أن تذبحه ، قال : فإذا كان الحديث هكذا ، فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ابني فيه ،