الأعمال والاعتقادات ، وليسوا في نفس الأمر على شيء ، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض من بعد كأنه بحر طام.
والقيعة : جمع قاع كجار وجيرة ، والقاع أيضا واحد القيعان ، كما يقال جار وجيران ، وهي الأرض المستوية المتسعة المنبسطة وفيه يكون السراب ، وإنما يكون ذلك بعد نصف النهار ، وأما الآل فإنما يكون أول النهار يرى كأنه ماء بين السماء والأرض ، فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء يحسبه ماء قصده ليشرب منه ، فلما انتهى إليه (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملا وأنه قد حصل شيئا ، فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها ونوقش على أفعاله ، لم يجد له شيئا بالكلية قد قبل إما لعدم الإخلاص أو لعدم سلوك الشرع ، كما قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] وقال هاهنا (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) وهكذا روي عن أبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد.
وفي الصحيحين أنه يقال يوم القيامة لليهود : ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : كنا نعبد عزيز ابن الله. فيقال : كذبتم ما اتخذ الله من ولد ماذا تبغون؟ فيقولون : يا رب عطشنا فاسقنا ، فيقال : ألا ترون؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا ، فينطلقون فيتهافتون فيها (١) ، وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب ، فأما أصحاب الجهل البسيط وهم الطماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم الذين لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) قال قتادة (لُجِّيٍ) هو العميق (يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) أي لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام ، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط ، المقلد الذي لا يعرف حال من يقوده ، ولا يدري أين يذهب ، بل كما يقال في المثل للجاهل أين تذهب؟ قال معهم ، قيل : فإلى أين يذهبون؟ قال لا أدري.
وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما (يَغْشاهُ مَوْجٌ) الآية ، يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر ، وهي كقوله (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ) [البقرة : ٧] الآية ، وكقوله (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) [الجاثية : ٢٣] الآية ، وقال أبيّ بن كعب في قوله تعالى : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) فهو يتقلب في خمسة من الظلم فكلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار ، وقال السدي والربيع بن أنس نحو ذلك أيضا. وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ
__________________
(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٤ ، باب ٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢.