ظنوا أنها منجاة لهم شيء ، وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي إما الإخلاص فيها وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية فهو باطل ، فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين ، وقد تجمعهما معا فتكون أبعد من القبول حينئذ ، ولهذا قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) قال مجاهد والثوري (وَقَدِمْنا) أي عمدنا ، وكذا قال السدي ، وبعضهم يقول : أتينا عليه.
وقوله تعالى : (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه في قوله (هَباءً مَنْثُوراً) قال : شعاع الشمس إذا دخل الكوة ، وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي وروي مثله عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي والضحاك وغيرهم ، وكذا قال الحسن البصري : هو الشعاع في كوة أحدهم ، ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (هَباءً مَنْثُوراً) قال : هو الماء المهراق. وقال أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي (هَباءً مَنْثُوراً) قال : الهباء رهج الدواب ، وروي مثله عن ابن عباس أيضا والضحاك ، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال قتادة في قوله (هَباءً مَنْثُوراً) قال : أما رأيت يبيس الشجر إذا ذرته الريح؟ فهو ذلك الورق. وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عاصم بن حكيم عن أبي سريع الطائي عن يعلى بن عبيد قال : وإن الهباء الرماد إذا ذرته الريح ، وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية ، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها على شيء ، فلما عرضت على الملك الحكيم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا إذا إنها لا شيء بالكلية ، وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية ، كما قال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) [إبراهيم : ١٨] الآية. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ـ إلى قوله ـ لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) [البقرة : ٢٦٤] وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً). [النور : ٣٩] وتقدم الكلام على تفسير ذلك ، ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) أي يوم القيامة (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠] وذلك أن أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات والغرفات الآمنات ، فهم في مقام أمين حسن المنظر طيب المقام (خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان : ٧٦] وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات ، والحسرات المتتابعات ، وأنواع العذاب والعقوبات (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان : ٦٦] أي بئس المنزل منظرا ، وبئس المقيل مقاما ، ولهذا قال تعالى: (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) أي بما عملوه من الأعمال المتقبلة نالوا