والكبر جائزان معا على ذات المصنوع الواحد من غير ترجيح لأحدهما ، وكذلك الضيق والسعة ؛ وإذا اختار الصانع أحد الجائزين ، وهو متمكن منهما على السواء ، فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر ، فجعل صرفه عنه كنقله منه.
فإن قيل : قوله تعالى : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) [الآية ١٦] بيان وتقرير لبروزهم في قوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) [الآية ١٦] والله تعالى لا يخفى عليه شيء ، برزوا أو لم يبرزوا؟
قلنا : معناه لا يخفى على الله منهم شيء في اعتقادهم أيضا ، فإنهم كانوا في الدنيا يتوهّمون إذا تستّروا بالحيطان والحجب أنّ الله لا يراهم ، ويؤيده قوله تعالى : (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٢) [فصلت].
فإن قيل : لم قال المؤمن في حق موسى (ع) كما ورد في التنزيل : (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) [الآية ٢٨] مع أنه صادق في زعم القائل لهذا القول ، وفي نفس الأمر أيضا ، ويلزم من ذلك أن يصيبهم جميع ما وعدهم لا بعضه فقط؟
قلنا : فيه وجوه : أحدها أن لفظة بعض صلة. الثاني : أنها بمعنى «كل» كما في قول الشاعر :
إنّ الأمور إذا الأحداث دبّرها دون الشّيوخ ترى في بعضها خللا ومنه قول لبيد :
أولم تكن تدري نوار بأنني |
|
وصّال عقد حبائل جذّامها |
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها |
|
أو يرتبط بعض النّفوس حمامها |
قلنا : ولقائل أن يقول : إن لفظة بعض في البيتين على حقيقتها ، وكنى لبيد ببعض النفوس عن نفسه ، كأنه قال : أتركها إلى أن أموت ، وكذا فسّره ابن الأنباري ؛ على أنّ أبا عبيدة قال : إن لفظة «بعض» في الآية بمعنى كل ، واستدل ببيت لبيد ؛ وأنكر الزمخشري على أبي عبيدة هذا التفسير ؛ على أن غير أبي عبيدة قال في قوله تعالى حكاية عن عيسى (ع) لأمّته : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) [الزخرف / ٦٣] أن لفظة «بعض» فيه بمعنى كل. الثالث : أنها على أصلها. ثم في ذلك وجهان : أحدهما أنه وعدهم النجاة إن آمنوا ، والهلاك إن كفروا ، فذكر لفظة بعض لأنهم على إحدى الحالتين لا