عالية ، يشرب منها المقربون إلى رضوان ربهم. وقد سئل ابن عبّاس عن هذا فقال : هذا ممّا قال الله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧) [السجدة].
«وقصارى ما سلف ، أنّه ، سبحانه ، وصف النعيم الذي أعدّه للأبرار في دار كرامته بما تتطلع اليه النفوس ، وبما يشوّقها اليه ، ليكون حضّا للذين يعملون الصالحات على الاستزادة من العمل ، والاستدامة عليه ؛ وحثّا لهمم المقصرين ، واستنهاضا لعزائمهم أن يحرصوا على التزوّد من العمل الصالح ، ليكون لهم مثل ما لأولئك» (١).
[الآيات ٢٩ ـ ٣٣] : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) (٢٩) : كانوا يضحكون منهم استهزاء بهم وسخرية منهم ، إمّا لفقرهم ورثاثة حالهم ، وإمّا لضعفهم عن ردّ الذي ، وإمّا لترفّعهم عن سفاهة السفهاء ؛ فكلّ هذا ممّا يثير ضحك الذين أجرموا ، وهم يتّخذون المؤمنين مادّة لسخريتهم ، أو فكاهتهم المرذولة. (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) (٣٠) يغمز بعضهم لبعض بعينه ، أو يشير بيده ، أو يأتي بحركة متعارف عليها بينهم للسخرية من المؤمنين ، وإذا انقلب هؤلاء الضالّون إلى أهلهم ، ورجعوا إلى بيوتهم ، رجعوا إليها فكهين ملتذّين بحكاية ما يعيبون به أهل الايمان ، إذ يرمونهم بالسّخافة وقلّة العقل ، (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) (٣٢) أي وإذا رأوا المؤمنين نسبوهم الى الضلال ؛ لأنهم نبذوا العقائد الفاسدة ، وتركوا عبادة الأصنام. ولم يرسل الله ، سبحانه ، الكفّار رقباء على المؤمنين ، ولا كلّفهم بمحاسبتهم على أفعالهم ، فما لهم وهذا الوصف ، وهذا التقرير.
روي أن عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ، جاء في نفر من المسلمين ، فرآه بعض هؤلاء الكفّار ، فسخروا منه وممّن معه ، وضحكوا منهم ، وتغامزوا بهم ، ثمّ رجعوا إلى جماعتهم من أهل الشرك ، فحدّثوهم بما صنعوا به ، وبأصحابه.
والآيات ترسم مشهدا لسخرية
__________________
(١). تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي ، ط ٣ ، مصطفى البابي الحلبي ، ٣٠ / ٨٢.