وهناك صنف كانوا يعقدون حلقاتٍ حول البيت يتصدرها الشعراء ، أو من لهم خبرة بالأنساب ، وعلم عن أحوال العرب وتواريخها وأيامها وحروبها ، وبالطبع فإنه كان هناك من له الخبرة الكافية والمعرفة التامة بأحوال مكة وقريش وتأريخها ، فقد كان هذا يُحدّث المتحلّقين حوله عن تأريخ البيت العتيق ، وقصة إسماعيل الذي فداه الله بذبح عظيم بعد أن أمر الله إبراهيم بذبحه . . . وأنه عندما كان طفلاً تركه أبوه مع أمه هاجر وديعة بوادٍ غير ذي زرع . . ثم حدثهم كيف إشتد الظمأ بإسماعيل الصغير واستحكم الوله والخوف على قلب أمه خشية أن يموت ظمأً حتى صارت ترى السراب بين الصفا والمروة فتحسبه ماءً وتندفع نحوه ، وحين لا تجدُ شيئاً ، تعود إلى مكانها الذي إنطلقت منه ، ثم تعود وترمي ببصرها نحو المرْوَة فيبرق أمامها لمعان السراب ثانيةً فتحسبه ماءً وتندفع نحوه !! تفعل ذلك سبع مرات ، حتى إذا أعياها التعب وداخَلَها اليأسُ استغاثت بربها ورب إبراهيم وإسماعيل . وفي هذه اللحظات هفا قلبها نحو مكان ولده إسماعيل ورنت إليه بعينين ذاهلتين يائستين فلمحت طيوراً تهوي لترف بجانب ولدها ، فأسرعت نحوه وإذا بها ترى الماء وقد تفجر من تحت قدمي ولدها الظامىء إسماعيل ، فخشيت أن يجف قبل أن يرتوي وترتوي منه ، فجعلت تزمُّ التراب حوله وتقول : زِمْ . . زِمْ (١) .
ثم حدثهم كيف استجاب الله دعوة إبراهيم فجعل هذا البلد آمناً ورزق أهله من كل الثمرات وغمره بالخيرات بعد أن كان مغيض جدب لا زرع فيه ولا كلأ ، وكيف صارت قلوب الناس تهوي إليه بعد أن كان مطوياً في زوايا الإهمال والنسيان ، حدثهم بهذا وأشباهه إلى أن إنتهى حديثه إلى أجياد وجرهم ، وكيف إنتصرت قطوراء على جرهم ، فقال :
جرهم وقطوراء قبيلتان من اليمن ، نزلا في مكة ، فتزوج إسماعيل من جرهم ، فلما توفي ، ولي البيت بعده ولده نابت بن إسماعيل . ثم ولي بعده مضاض بن عمرو الجرهمي ـ خال أبناء إسماعيل ـ ثم تنافست جرهم وقطوراء
__________________
(١) المصدر السابق ـ ١٨٥ .