قويم وإمام عليم ، كنّا في أعصار وذرى رياح تحت ظلّ غمامة اضمحلّ راكدها فمحطّها من الأرض غباء وبقي من بعدي جاءوا بساكنة بعد حركة ، كاظمة بعد نطق ، لتعظيم هدوّي وخفوت أطرافي ، انّه واعظ لكم من نطق البليغ ، ودّعتكم وداع امرئ مرصد لتلاق ، وغدا ترون وتكشف لكم عن سرائري ، عليكم السلام الى يوم المرام ، كنت بالأمس صاحبكم واليوم عظة لكم وعدا افارقكم ، إن أبق فأنا وليّ دمي ، وإن متّ فالقيامة ميعادي والعفو أقرب للتقوى ألا تحبّون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم (١).
وقال عليهالسلام : إنّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع ، وأنّ الآخرة قد أشرفت وأقبلت باطّلاع ، وأنّ المضمار اليوم وغدا السباق ، فمن عمل في أيّام أمله قبل حضور أجله فقد حسن عمله ، ومن قصّر في أيّام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله ، ألا فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون في الرهبة ، ألا وإنّي لم أر كالجنّة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربها ، ومن لا ينفعه الحقّ يضرّه الباطل ، ومن لا يستقيم له الهدى يخزيه الضلال ، وانّكم قد امرتم بالظعن ودللتم على الزاد ، وأخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى وطول الأمل (٢).
وقال عليهالسلام : لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل ، ويؤخّر التوبة لطول الأمل ، ويقول في الدنيا قول الزاهدين ويعمل فيها عمل الراغبين ، إن اعطي منها لم يشبع ، وإن منع لم يقنع ويعجز عن شكر ما اوتي ، ويبتغي الزيادة فيما بقي ، ينهى ولا ينتهي ، ويأمر ولا يأتمر ، يحبّ الصالحين ولا يعمل عملهم ، ويبغض الطالحين وهو منهم ، يكره الموت لكثرة ذنوبه ، ويقيم على ما يكره ، إن سقم ظلّ نادما ، وإن صحّ أمن لاهيا ، يعجب بنفسه إذا عوفي ، ويقنط إذا ابتلي ، تغلبه نفسه على ما بطن ، ولا يغلبها على ما يستيقن ، لا يثق من الرزق بما ضمن له ، ولا يعمل من العمل بما فرض عليه ، إن استغنى بطر وفتن ، وإن افتقر قنط ووهن ، فهو من الذنب والنعمة
__________________
(١) نهج البلاغة : ص ٢٠٧ خطبة ١٤٩ مع اختلاف في بعض ألفاظها.
(٢) نهج البلاغة : ص ٧١ خطبة ٢٨.