وبتقريب آخر : تنجيز العلم الإجمالي يتوقف على تعارض الأُصول في أطرافه وتساقطها ومع عدم جريانها لا يكون مؤمّن في البين ، واحتمال التكليف من دون مؤمّن يقتضي تنجز الواقع فلا محيص من الاحتياط ، وليس الأمر كذلك في المقام فإن حرمة شربه لا شك فيها ، وأصالة الإباحة لصحة الوضوء به لا مجرى لها في نفسها لما مرّ من أن الغصب بوجوده الواقعي غير مانع من صحة العبادة فلا تجري فيه أصالة الإباحة للقطع بصحة العبادة معه ، فتبقى أصالة الطهارة بالنسبة إلى الوضوء بلا معارض ، ومقتضاها جواز الوضوء به.
وبما ذكرناه في تقريب ما ذهبا إليه يندفع ما قد يورد عليهما من النقض بما إذا علم إجمالاً بغصبية أحد الماءين ، فإنّه لا خلاف عندهم في عدم جواز التوضؤ من الماءين حينئذٍ والمقام أيضاً كذلك.
والوجه في الاندفاع أن الغصبية في المثال محرزة وواصلة إلى المكلف بالعلم الإجمالي وبه تتنجز في حقه ، ويجب الاجتناب عن المغصوب من الماءين ، وقد عرفت أن الغصب المحرز بشيء من علمي التفصيلي والإجمالي مانع عن صحة العبادة.
فالصحيح في دفع ذلك أن يقال : أوّلاً : أن ما ذهبا إليه فاسد مبنى ، ولا يمكن المساعدة عليه بوجه ، لما بيّناه في بحث اجتماع الأمر والنهي (١) من أنّا إذا قلنا بالامتناع وتقديم جانب الحرمة ، وكانت المبغوضية ناشئة عن مثل الماء في الوضوء والمكان في المسجد ، فلا محالة تكون المبغوضية مانعة عن صحة العبادة بوجودها الواقعي وإن لم يعلم بها المكلف ، وذلك لعدم إمكان التقرب بما هو مبغوض واقعاً.
وثانياً : أن تطبيق المبنى المتقدم لو تمّ في نفسه على محل الكلام غير صحيح وذلك لأن الغصب بوجوده الواقعي وإن لم يمنع عن صحة العبادة كما هو المفروض ، إلاّ أنه مانع لا محالة عن جواز سائر التصرفات من رشّه واستعماله في إزالة القذارة وسقيه للحيوان أو للمزارع وغيرها من الانتفاعات لحرمة التصرف في مال الغير من دون اذنه ، كما أن النجاسة الواقعية مانعة عن صحة العبادة بلا خلاف. ومن هذا يتولّد
__________________
(١) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ٢٣٣.