مندفعة بأنهما وإن وردتا في الحدثية من الطهارة ، إلاّ أن الكلام في المقام إنّما هو في هيئة صيغة الطهور لا في مادتها ، سواء أكانت مادتها بمعنى الخبثية أم كانت بمعنى الحدثية ، فالتكلّم في مادتها أجنبي عمّا هو محط البحث في المقام. وقد عرفت أن الهيئة في الطهور بمعنى ما تنشأ منه الطهارة وما يحصل به المبدأ.
الجهة الثانية من المناقشات : أنّ الآية على تقدير دلالتها فإنّما تدلّ على طهورية الماء المنزل من السماء وهو المطر ، فلا دلالة فيها على طهورية مياه الأرض من ماء البحر والبئر ونحوهما.
وهذه المناقشة لا ترجع إلى محصّل ، وذلك لما ورد في جملة من الآيات وبعض الروايات (١) من أن المياه بأجمعها نازلة من السماء ، إما بمعنى أن الله خلق الماء في السماء فهناك بحار وشطوط ثم أنزله إلى الأرض فتشكّل منه البحار والأنهار والشطوط والآبار ، أو بمعنى أن الله خلق الماء في الأرض إلاّ أنّه بعد ما صار أبخرة باشراق الشمس ونحوه صعد إلى السماء فاجتمع وصار ماء ، ثم نزل إلى الأرض كما هو مذهب الحكماء والفلاسفة ، وهذا المعنى لا ينافي نزول الماء من السماء لأنّه بمعنى نزول أمره من السماء. ويدلُّ عليه قوله تعالى ( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ ) (٢) فإنّه لم يتوهّم أحد ولا ينبغي أن يتوهّم نزول نفس الحديد من السماء.
ومن جملة الآيات الدالّة على ما ادعيناه من نزول المياه بأجمعها من السماء قوله تعالى ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (٣) وقوله تعالى ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ) (٤) وقوله تعالى :
__________________
(١) ففي البرهان المجلد ٣ ص ١١٢ عن تفسير علي بن إبراهيم ما هذا نصه : « ثم قال : وعنه ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ ... ) فهي الأنهار والعيون والآبار » ولا يرد عدم اشتمال الرواية على ماء البحر ، فإنّه إنّما يتشكل من الأنهار ، فلا يكون قسماً آخر في مقابلها.
(٢) الحديد ٥٧ : ٢٥.
(٣) الحجر ١٥ : ٢١.
(٤) الزمر ٣٩ : ٢١.