جارياً بالفعل ، فلا تشمل ما هو كذلك شأناً واقتضاءً ، ولعلّ من يرى دخول العيون في الجاري ينظر إلى اعتصامها بمادتها ، وهو حق إلاّ أن الكلام فيما هو موضوع الجاري لتترتّب عليه أحكامه الخاصة لا في الماء المعتصم.
وأمّا اعتبار النبع فقد ذكروا أن الجاري لا يطلق إلاّ على ما يكون نابعاً عن الأرض ويكون له مادّة ، وأمّا مجرد السيلان فهو لا يكفي في إطلاق الجاري عليه ، نعم الجاري لغة أعم من أن يكون له مادّة ونبع أم لم يكن حتى أنّه يشمل الجاري من المزملة والأنابيب ، وما يراق من الحب على وجه الأرض إلاّ انّه عرفاً يختص بما له مادّة ونبع ، وهو الذي يقابل سائر المياه. وقد ادعى الإجماع في جامع المقاصد وغيره على اعتبار النبع في الجاري وذكر ان الأصحاب لم يخالفوا فيه غير ابن أبي عقيل حيث اكتفى بمجرد السيلان والجريان وإن لم يكن له مادّة ونبع (١).
والتحقيق في المقام أن يقال : إن أراد ابن أبي عقيل بهذا الكلام كفاية مطلق الجريان في صدق الجاري وإن لم يكن لجريانه استمرار ودوام ، كجريان الماء على وجه الأرض بإراقة الكوز والإبريق ونحوهما ، فالإنصاف أنّه مخالف لمفهوم الماء الجاري عرفاً ، وإن أراد أن الماء إذا كان له جريان على وجه الدوام فهو يكفي في صدق عنوان الجاري عليه وإن لم يكن له مادّة ونبع ، فالظاهر أن ما أفاده هو الحق الصريح ولا مناص من الالتزام به. والوجه في ذلك : أن توصيف ماء بالجريان مع أنّه لا ماء في العالم إلاّ وهو جار فعلاً أو كان جارياً سابقاً ، لا معنى له إلاّ أن يكون الجريان ملازماً له دائماً ليصح بذلك توصيفه بالجاري وجعله قسماً مستقلا مع أن الجريان ربّما يتحقق في غيره أيضاً وهو كتوصيف زيد بكثرة الأكل أو السفر لأنّه إنّما يصح فيما إذا كان زيد كذلك غالباً أو دائماً لا فيما إذا اتصف به في مورد ، وكذا الحال في توصيفه بغيرهما من العناوين. وعليه فلا يصح توصيف الماء بالجريان إلاّ فيما كان الجريان وصفاً لازماً له ولا يفرق في هذا بين أن يكون له مادّة ونبع كما في القنوات وأن لا يكون له شيء منهما كما في الأنهار المنهدرة عن الجبال المستندة إلى ذوبان ثلوجها شيئاً فشيئاً باشراق
__________________
(١) جامع المقاصد ١ : ١١٠.