ويندفع الثاني : بأنّ من دأب العقل وديدنه أنّه لا يحكم في قضيّة إلاّ بعد الفراغ عن إحراز موضوعها بجميع خصوصيّاته ومشخّصاته وقيوده وحيثيّاته ، وبعد الإحاطة بجميع جهاته واعتباراته ، بل هذا طريقة كلّ حاكم في قضيّة حكمه من أهل العرف كان أو أهل الشرع ، ومن هنا ما قيل من أنّ مفهوم الصيغة إنّما يرد على مدلول المادّة بعد اعتبار قيودها وحيثيّاتها ، وحينئذ فإذا احتمل العقل في قضيّة مدخليّة خصوص زمان أو مكان أو غيرهما لا يتسارع إلى الحكم عليه بحسن ولا قبح ولا غيرهما إلاّ ويتحرّى إلى أن يتبيّن عنده المدخليّة أو عدم المدخليّة فيحكم بحسبهما ، وإن لم يتبيّن شيء من ذلك عنده فلا يزال متوقّفا في الحكم ، ولعلّ كثيرا ممّا لا حكم للعقل فيه من غير المستقلاّت من هذا القبيل ، فلم يبق في قضايا حكمه ما حكم فيه بحسن أو قبح واحتمل معه فقد شرط لجواز غفلته عن خصوصيّة الأزمنة أو الأمكنة أو غيرهما.
وأمّا احتمال غفلته عن وجود المانع فيما أدرك فيه جهة مقتضية لحكم خاصّ وهو جهة اخرى مقتضية لخلاف ذلك الحكم.
ففيه : أنّ الإنصاف أنّ ما يدركه العقل من الحسن والقبح قد يكون علّة تامّة للحكم الشرعي ، وقد يكون مقتضيا له قابلا لمصادفة ما يمنعه عن الاقتضاء ، ويتبع في ذلك الفعل المتّصف بهما ، فإنّه بعنوانه الخاصّ قد يكون علّة تامّة لحسنه أو قبحه كالظلم بالنسبة إلى القبح ولزمه كون الوصف أيضا علّة تامّة للحكم ، وقد يكون مقتضيا له كالكذب بالقياس إليه فلزمه كون الوصف أيضا بالقياس إلى الحكم كذلك.
ويعرف كونه من أيّ القسمين بعدم قبوله التخصيص في الأوّل ولذا لا يقال : « كلّ ظلم قبيح إلاّ الظلم الفلاني » وقبوله إيّاه في الثاني ، ولذا يصحّ القول : « بأنّ كلّ كذب قبيح إلاّ الكذب الفلاني ».
وبأنّه إذا اخذ معه جهة محسّنة أو جهة مقبّحة فإن أوجب انقلاب الموضوع وخروجه الموضوعي كان من الأوّل كقتل النفس مثلا ، فإنّه باعتبار كونه ظلما قبيح فإذا اخذ معه كونه على وجه القصاص أو كونه لأجل الارتداد خرج عن كونه ظلما ، وإلاّ بأن يفيد خروجه عن الحكم كان من الثاني كالكذب إذا اخذ فيه جهة النفع.
وبأنّ قيد الحيثيّة مع الأوّل يكون مستدركا ومع الثاني احترازيّا ، فإنّه في قولنا : « الظلم من حيث إنّه ظلم قبيح » لا يفيد شيئا ، وفي قولنا : « الكذب من حيث إنّه كذب قبيح » يفيد