المؤرّخون مفاخر له.
ولا يُغيّر من مغزى هذا شيئاً أنّ معاوية كان يهب بعض أعدائه القدماء أموالاً جزيلة ؛ فإنّ الذي ألجأ هؤلاء الأعداء إلى مسالمته وإن كان عجزهم عن المقاومة إلاّ إنّ هذا لا ينفي أنّهم كانوا قادرين على أن يشغبوا عليه إذا لم يستجب لمطالبهم ، ولم يكن عسيراً عليه إدراك أنّ من الأفضل له عدم إثارتهم بحرمانهم من الامتيازات الثابتة لهم بحكم كونهم زعماء قبليين.
ويجب علينا حين ندرس سياسة معاوية المالية أن نضع خطّاً فاصلاً بين الشام وبين سائر الولايات الإسلاميّة ؛ لأنّ الشام قد تمتّعت برخاء حقيقي ؛ والسرّ في ذلك هو أنّ جند الشام كان عماد معاوية في حروبه ، فلم يسعه إلاّ أن يسترضيه بالأموال. ونلاحظ أنّه كان يُنفق على جيشه الذي بلغ ستين ألف جندي ، ستين مليون درهم في السنة (١) ، على أنّه لا يفوتنا أن نلاحظ أنّ هذا الرخاء لم يكن من حظّ عرب الشام أجمع ، وإنّما كان لقبائل اليمن وحدها ، وأمّا قبائل قيس فكانت تُعاني شظف العيش ؛ لأنّه لثقته بولاء اليمن له لم يأبه لقيس ، فلم يفرض لها في العطاء إلاّ في وقت متأخّر بعد أن خشي على سلطانه من قوّة قبائل اليمن (٢).
وأما سائر الولايات الإسلاميّة فقد ذاقت الطبقات الفقيرة فيها طعم البؤس ، وعانت ألواناً من الاستعباد والإفقار ، بلا فرق في ذلك بين المسلمين وبين الداخلين في ذمّة الإسلام ، فقد اهتمّ معاوية بجمع المال دون أن يهتمّ بمصادره وأساليب جبايته ، واتّخذ من هيمنته على مصادر الجباية وبيت المال ذريعة إلى التحكّم في أعدائه المغلوبين على أمرهم ، والذين لا يقدرون على إزاحته عن الحكم.
وهناك بعض الشواهد على ما نقول. كتب معاوية إلى عمّاله بعد عام
__________________
(١) تاريخ الاسلام ١ ـ ٤٥٧.
(٢) زيدان : التمدن الإسلامي ٤ ـ ٧٤ ـ ٧٥.