المؤمنين إن هؤلاء قد أقروا على أنفسهم ، ولو كان من له لسان وبيان لأجاب عنهم ، فقال له هشام : أفعندك في بلدك غير ما قالوا؟ قال : نعم ، أصف بلادي ، وقد رأيت بلادك فتقيسها ، فقال : هات فقال : يغدو (١) قانصانا ، فيجيء هذا بالشبوط والشّيم (٢) ، ويجيء هذا بالظبي والظليم ، ونحن أكثر الناس ساجا وعاجا ، وخزّا وديباجا ، وخريدة مغناجا ، وبرذونا هملاجا (٣) ، ونحن أكثر الناس قندا (٤) ونقدا ، ونحن أوسع الناس برية ، وأريفهم (٥) بحرية ، وأكثرهم ذرية ، وأبعدهم سريّة. بيوتنا ذهب ، ونهرنا عجب ، أوله رطب وآخره عنب وأوسطه قصب.
فأما نهرنا العجب فإن الماء يقبل وله عباب ونحن نيام على فرشنا ، حتى يدخل أرضنا ، فيغسل نبتها (٦) ويعلو متنها فنبلغ منه حاجتنا ونحن نيام على فرشنا لا ننافس فيه من قلة ، ولا نمنع منه لذلة ، يأتينا عند حاجتنا إليه ، ويذهب عنا عند رينا وغنانا عنه.
النخل عندنا في منابته كالزيتون عندكم في مأركه (٧) ، فذاك في أوانه كهذا في إبّانه ، ذاك في أفنانه ، كهذا في أغصانه ، يخرج أسفاطا (٨) عظاما وأوساطا ثم ينفلق عن قضبان الفضة منظومة بالزبرجد الأخضر ، ثم يصير أصفر وأحمر ، ثم يصير عسلا في شنّة (٩) من سحاء ليست بقربة ولا إناء ، حولها المذاب ودونها الحراب لا يقربها الذباب ، مرفوعة عن التراب ، من الراسخات في الوحل ، الملقحات بالفحل ، المطعمات في المحل.
وأما بيوتنا الذهب فإن لنا عليهم خرجا في السنين والشهور ، نأخذه في أوقاته ، ويدفع الله عنه آفاته وننفقه في مرضاته.
قال : فقال هشام : وأنّى لكم هذا يا ابن صفوان؟ ولم تسبقوا إليه ولم تنافسوا
__________________
(١) الجليس الصالح : يعدو قانصنا.
(٢) الشبوط والشيم ضربان من السمك.
(٣) الهملاج من البراذين : المذلل المنقاد (القاموس).
(٤) في الجليس الصالح : فيدا.
(٥) الأصل «أربقهم» والمثبت عن الجليس الصالح.
(٦) في الجليس الصالح : فيغسل آنيتها ، وفي ابن العديم : فيقتل نتنها.
(٧) الجليس الصالح : منازله.
(٨) الأصل : أسقاطا ، والمثبت عن الجليس الصالح.
(٩) الجليس الصالح : في شنه مرنتجا بقربه.