وبطلان ما قالوه في الخلاء والمكان ، على أنا نقول معيدين عليهم إن أردتم أنّ المكان يكون المتمكّن وإن لم يوجد الجسم لم يوجد المكان لأنه قائم بالجسم ، وليس بشيء ذي وجود في نفسه فهو صحيح ، وإن أردتم للمكان جوهرا يبقى إذا ارتفع المتمكن ، وأنّ الذي بطل بارتفاعه هو النّسبة إليه والإضافة ، ويبقى المكان المطلق مكانا كما كان وهو الخلاء الفارغ وليس فيه جسم فهذا إحالة على شيء لا الإدراك يثبته ولا الوهم يتصوّره. فإن قالوا : المكان حينئذ يكون مكان ما يمكن أن يكون فيه كالزّق الخالي من الشّراب ، فإنّه مكان الشّراب الذي يمكن أن يكون فيه.
قلنا : صور في وهمنا من الخلاء مثل ما نتصوّره إذا توهّمنا الزّق والشّراب وذلك مما لا يقدرون عليه ، لأنّ كلامهم فارغ لا يفضي إلى معنى محصل ، وأيضا فإنّ الأجسام لا يخلو من أن تكون ثقيلة فترسب ، أو خفيفة فتطفو ، والخلاء عندهم ليس بثقيل ولا خفيف ، فيلزمهم أن يكون النقطة هي الخلاء لأنّها ليست بثقيلة ولا خفيفة ، ويلزمهم على قولهم بأن المتحرك لا يتحرك إلا في الخلاء أن يتحرك أبدا ولا يستقر إذا لم يوجد شيء يضاده أو يسكن دائما فلا يتحرّك إذ لا سبب هناك يوجب تحركه ، أو إذا تحرّك في الخلاء أن يتحرك إلى جميع الجهات ولا يختص بجهة دون جهة لأنّ الخلاء كذلك. فإن قالوا : إن الذي تسميه خلاء هو الهواء ، أسقط قولهم بأن الهواء يقبل اللّون ويؤدي الصّوت والخلاء ليس كذلك وهذا بيّن.
وأعجب من هذا أن الباري مخترع لجميع ما خلقه وأنه لا يعجزه مطلوب ولا ينكاده معلوم ، ثم أقاموا معه في الأزل الهيولى وهو المادة ، ورتّبوا معه الصورة ليكون جميع ذلك كالنّجار والخشب والنّجارة والله تعالى يقول : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [سورة فصلت ، الآية : ٩] إلى قوله : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [سورة فصّلت ، الآية : ١٢] ولم يقل ذلك إلا وأهل العلم إذا فكّروا فيه أدركوا منه الآية البيّنة والحجّة الواضحة ، وبيّنوا أنه ليس في العالم شيء إلا وهو منتقص غير كامل ، وذلك هو الدّليل على أنه مقهور لا يستغنى به ، ولا بدّ له من قاهر لا يشبهه ولا يوصف بصفاته على حدّها ، لأن ذلك آية الخلق وآية الخلق لا تكون في الخالق.
فصل آخر يزداد النّاظر فيه والعارف به استبصارا فيما وضع الباب له
اعلم أنّ الاستدلال بالشّاهد على الغائب هو الأصل في المعرفة بالتّوحيد وحدوث الأجسام لا يعرف ببداهة العقل ولا بالمشاهدة لأنّه لو عرف ذلك لاستوى العقلاء في معرفته كما استووا فيما شاهدوه ، وإنما يتهيأ أن يعرف بما علم من تعاقب الأعراض المتضادّة عليها ، وإنّما لا تنفك منها على حدوثها إلا بمشاهدة الأجسام وإذا ثبت حدوث الأجسام فلا