الحوت ـ والجوزاء ـ والسّنبلة ـ والقوس ـ تسمّى ذوات جسدين لامتزاج طبيعة كل فصل بطبيعة الفصل الذي يليه. وذكر بعضهم أنّ أهل الحجاز يجعل للسنّة ستة فصول وسميا وشتاء وربيعا فهذه أزمنة الشتاء وصيفا وحميما وخريفا فهذه أزمنة الصّيف.
واعلم أنهم يبدءون من الأوقات باللّيل كما يبتدئون من الزّمان بالشّتاء ولذلك صار التاريخ به من دون النّهار ، وإنّما كان عندهم كذلك لأن الظّلمة الأول والضّياء داخل فيه وكل معتبرهم بمسير القمر فمستهلّه جنح العشاء وطلوعه تحت البيات. فلولا أنّ نوره ونور الشّمس يجلوان الهواء لكان الظّلام راكدا فهو أقدم ميلادا وأسبق أوانا ، وألذّ استمتاعا ، وأوثر مهادا وأغزر مطرا ، وأروى سحابا ، وأندى ظلا ، وأهول جنانا ، وأطيب نسيما ، وأفضل أعمالا. ولذلك قدمه الله تعالى في رتبة الذّكر ورتبة الوصف فقال تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [سورة النّبأ ، الآية : ١٠ ـ ١١] فرتبة الذّكر ظاهرة من التّلاوة كما ترى ، ورتبة الوصف أن السّكن واللّباس مقدمان على السّبح والمعاش في متصرفات الأنام.
ثم بعد ذلك هما أخو الهدو والقرار اللّذين منهما يبتدئ النّشاء والنّماء. وقال تعالى عند الأقسام بالزمان : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [سورة الليل ، الآيتان : ١ ـ ٢](وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [سورة الإسراء ، الآية : ١٢] فلا موضع أجرى ذكرهما إلا واللّيل مقدّم ، ثم فضل تبتيل المجتهد وترتيل القارئ ، وابتهال المستغفر فيه على ما يكون منها في غيره فقال تعالى : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٧] وفي موضع آخر : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [سورة الذاريات ، الآية : ١٨](إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [سورة المزمل ، الآية : ٦] كلّ ذلك لأنه الأول المقدم ، والأصل الموصل ، والأوان الممهد للرّاحة والوقت الموجه للرّفاهية ، وكذلك قالوا عند المدح : ما أمره عليه بغمة ولا ليله عليه بسرمد. وقال النابغة :
فإنّك كاللّيل الذي هو مدركي |
|
وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع |
فقال : كاللّيل ولم يقل كالصّبح وإن كان المغر من كل لا يطاق وقال بعضهم : إنما قال كاللّيل لأنه كان عليه غضبان. وقد قيل اللّيل أخفى للويل وأخذ الفرزدق قول النّابغة هذا شعرا :
ولو حملتني الريح ثم طلبتني |
|
لكنت كشيء أدركته مقادره |
جعل الرّيح بإزاء اللّيل واللّيل أعم ، والمستحسن قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «نصرت بالرّعب وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وليدخلن هذا الدّين على ما دخل عليه اللّيل» يعني الإسلام ،