وكما ندب المتعبد إلى التقرب فيه إليه. وقال الله تعالى للنبي صلىاللهعليهوسلم : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [سورة الإسراء ، الآية : ٧٩] أنبأ عن نفسه تعالى بمثله فيما يبرمه ، ويقضيه ، فقال تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [سورة الدخان ، الآية : ٤] يعني في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
ثم قال الناس : هذا أمر دبّر بليل ، وثبت الرأي ، وهذا رأي مبيت وليس القصد تفضيل اللّيل على النّهار ، وإنما المراد التّنبيه على سبقه وعلى إصابة العرب في تقديمه ، وقد تكلّمنا في تصحيح طريقة العرب فيما قدّمناه من الآي التي شرحناها عند قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) [سورة يس ، الآية : ٣٧] وما يقتضيه لفظة السّلخ بكلام بين ، وذكر أبو حنيفة الدّينوري عن غير واحد من علماء الرّواية أن العرب تبدأ فتقسم السّنة نصفين شتاء وصيفا ، وتقدم الشّتاء على الصّيف وتجعله أول القسمين وهذا ضد صنيع الجمهور من أهل القرار وعلماء الحساب ، لأنهم يقدّمون الصّيف على الشّتاء.
وقد كان بين أهل العلم اختلاف قديما في أنه أي أرباع السّنة أولى بالتّقديم حتى رأوا أنّ ربع الربيع الذي أوله حلول الشّمس برأس برج الحمل أولى بالتّقديم فأطبقوا على تقديمه باتفاق ، ولذلك أجمعوا في عد البروج على الابتداء ببرج الحمل. وفي عد المنازل على الابتداء بالشّرطين ، حتى لا تجد في ذلك مخالفا. هذا صنيعهم في الأزمنة ، فأما إذا صرت إلى سني الأمم وجدتهم فيها مختلفين. فمنهم من يفتتح السّنة في ربع الشّتاء ، ومنهم من يفتتحها في ربع الخريف ، ومنهم من يفتتحها في ربع الرّبيع كلّ ذلك قد فعلوا.
وممن افتتحها في الخريف أهل الشّام من السّريانيين ، ألا ترى أوّل سنتهم تشرين الأول وأنه صدر الخريف وابتداء الوسمي ، ولعل العرب أيضا كانت قد ابتدأت السّنة في بدء الأمر على مثل ذلك ، فجعلوا مفتتحها في أول الوسمي كما أنه يقدمه في قسمة الأزمان والأنواء. فثبتوا على أمرهم الأول في تقديم الوسمي ، وانتقل مدخل السّنة عن موضعه الأول ثمانين عدد أيام سنة القمر وسنة الشّمس من التّفاوت والفصول إنما تتفضّل بمسير الشّمس لا بمسير القمر.
وإنمّا توهّمت هذا من صنيع العرب من أجل أنّ كثيرا من علماء الرّواة يزعمون أنّ شهري ربيع إنما سميّا للربيع ، وأن جماديين إنما سميتا للشّتاء ووجود الماء. وأن شعبان إنمّا سمي شعبان لاشتعاب الظّعن إياهم عن المرابع للمحاضر وأنّ شهر رمضان إنمّا سمّي رمضان لشدة الحر والرّمض وأنّ صفر أنسب إلى الزّمان الذي يسمّى الصّفري ، وهذا الذي ذكروا أمر قريب لا يبعد في الوهم ، لأنّا على هذا الترتيب نجد أزمان السّنة عندهم ، ومما يقوي هذا القول ما حكي عن الغنوي الأعرابي وعن غيره فإنه قال : جمادى عند العرب