فهذا وقت الطّلوع والسّقوط ومعنى قوله : تهلهل اللّيل أي تصير في مشرقه حيث امتزج سواده بياض الصّبح فهي فوت النّهار ، لأنّه لم يطمسها بضوئه ، ولم يلحق بظلمة اللّيل الخالصة ، فهي بينهما ، واللّيل لا يبأس منها ، لأنّها في بقية منه ، ولا النّهار يسلمها للّيل لأنّها في ابتداء منه ، ومراد الشّاعر بهذا الوصف أنّ الأمر الذي وقته كان في حمارّة القيظ ، لأن الشّعرى تطلع بالغداة في معمعان الحر.
قال الشيخ : أظنّ هذا الشّاعر سلك في تحديده للاستسرار طريقة زهير حين قال يصف شاهينا وحمامة شعرا :
دون السّماء وفوق الأرض قدرهما |
|
فيما تراه فلا فوت ولا درك |
فقوله : لا فوت ولا درك ، كقول ذاك لا يبأس اللّيل منها ، ولا النّهار يعترف اللّيل بها ، قال : وقال الكميت في تحديد وقت الطلوع شعرا :
حتّى إذا لهبان الصّيف هبّ له |
|
وأفغر الكالئين النّجم أو كربوا |
وساقت الشّعريان الفجر بعضهما |
|
فيه وبعضهما باللّيل محتجب |
فجعل طلوعها بين اللّيل والنّهار كما جعله الأوّل. ومعنى أفغر النّجم : يريد إذا صارت الثّريا في وسط السّماء ، فمن نظر إليها فغر فاه ، أي فتحه ، ومعنى كربوا : قربوا وطعن قوم على الكميت في هذا البيت ، وحسبوا أنه أراد أن إحداهما طلعت قبل الفجر ، فهي في اللّيل ، وأنّ الأخرى طلعت مع الفجر ، فهي فيه ، فقالوا : لا يجوز ذلك إلا في ثلاثة فصاعدا ، قال أبو حنيفة : والذي قالوا كما قالوا ، غير أنّهم ذهبوا إلى غير مذهب الكميت ، ولو أراد الكميت ما توهّموا لكان قد أخطأ في المعنى أيضا مثل ما أخطأ في اللّفظ ، وذلك أنّه قال : وساقت الشّعريان الفجر.
فاعلم أنّ الفجر طلع قبلهما ، فكيف يعود فيجعل إحداهما طالعة قبله ، هذا بتعجيل ، وبعد فإنّ الشّعريين تطلعان معا. وإنّما أراد أنّ بعضهما كلتيهما في اللّيل وبعضهما كلتيهما في النّهار ، إذا كانتا بين اللّيل والنّهار ، قال الشيخ الأكشف في بصرة الكميت أن يقال أراد أنّ بعضيهما في اللّيل وبعضيهما في النّهار ، فيخرج البعض بالثنية من أن يكون بمعنى أحد ، ويستفاد منها أنّ الشّعريين تطلعان معا ، وأنّ القصد في ذكرهما للتّحديد ، إلى أن تكونا بين اللّيل والنّهار ، ومع ذلك فقد ضيق على نفسه تضييقا شديدا ، فأفرط في التّحديد إفراطا بعيدا ، فإذا سمعتهم ينسبون إلى الطّلوع والسّقوط مرسلا غير مضاف إلى وقت ، فاعلم أنّهم إنّما يريدون الطلوع والسّقوط للّذين يكونان بالغداة ، وذلك مثل قولهم إذا طلعت العقرب :