فأما قوله : كان عليه مؤتنفا حراما ، فالمعنى كان عليه حرمة شهر مؤتنف حرام ، فحذف المضاف وأقام الصّفة مقام الموصوف ، والتّقدير : أنّ جارهم لعزّهم ومنعتهم لا يهاج ولا يضام ، فكأنّه في حرمة شهر حرام وقوله : ويأكل جارهم أنف القصاع ، فإنه يريد أنّهم يؤثرون ضيفهم بأفضل الطّعام وخيره فيطعمونه أوّله لا البقايا ، وما أتى على نقاوته ، فهذا جمع على أنف مثل : بازل وبزل قابل وقبل. وإذا كان كذلك قرئ قراءة من قرأ : (ما ذا قالَ آنِفاً) [سورة محمد ، الآية : ١٦] وأمّا ما روي عن ابن كثير من قوله : أنفا فمجوز أن يكون توهّمه مثل حاذر وحذر ، وفاكه وفكه والوجه الرّواية الأخرى آنفا بالمدّ كما قرأ عامتهم.
وقال بعض أصحاب المعاني : لا يمتنع أن يكون الباب الذي قسمه كلّه من أصله واحدا وهو التقدّم ، وتكون الأنفة من الأنف الذي هو الجارحة ، وسمّيت به لتقدّمه في الوجه. ثم جعل ما يؤنف منه من الذّل ، كإضافة الأنف وجدعه يبيّن هذا ويشهد له قولهم : بعير أنف ومأنوف : إذا عقره في الخشاش فانقاد لما يراد منه ، وفي الحديث : «المسلم هيّن ليّن إن قيد انقاد» وقد نسب الذّل إلى الأنف في كلامهم حتّى قيل : هو يحمي أنفه من كذا وهو حمي الأنف ، والشاعر قال :
ولا نال أنفا منه بالذّل نائل
وقال أبو إسحاق في قوله تعالى : (ما ذا قالَ آنِفاً) [سورة محمد ، الآية : ١٦] أراد في أوّل وقت يقرب منّا ، وقال الخليل : أنفت فلانا أنفا ، كما تقول : الذي قبل أي قبل كأنه أراد أنفته فأنف أنفا ، والمعنى حركته من أقرب وقته فابتداء هذا بيان ما رمى به الخليل. ويجوز فيه وجه آخر : وهو أن يريد ما ذا قال فيما أنفه وأنفا ويكون أنفته وأنفا من باب قم قائما وأشباهه. ويكون اسم الفاعل نائبا عن المصدر ، قال : وائتنفت ايتنافا أوّل ما يبتدأ فيه ، والمستأنف من الكلام والأمر كذلك.
قال أحمد : وعلى ما حرّرناه من كلام المعترض وحكاية الخليل ، صحّ قراءة ابن كثير وتوجّه اختياره أنفا غير ممدود قياسا وسماعا ، ولم يكن متوهّما فاعلمه.
ومن الأحرف التي نداولها قوله تعالى : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) [سورة ق ، الآية : ٤٠] هو مصدر والمصادر تجعل ظروفا على إرادة إضافة أسماء الزّمان إليها وحذفها كقولك : جئتك مقدم الحاج ، وخفوق النّجم ، وخلافة فلان ، يريد في ذلك كلّه وقت كذا فحذفه فكأنّه قال : وقت أدبار السّجود ، إلا أنّ المضاف المحذوف في هذا الباب لا يكاد يظهر وهذا أدخل في باب الظّروف من قولك أدبار السّجود إذا فتحت وكأنه أمر بالتّسبيح بعد الفراغ من الصّلاة.
وقد قيل : أريد به الرّكعتان بعد المغرب ، وأدبار جمع دبر ودبر وقد يستعمل ظرفا نحو : جئتك في دبر الصلاة ، أي في أدبار الصّلاة ، وقال شعرا :