ويتحوّلون في معاشيب الأرض ويشربون ماء السّماء ويجتزون بالرّطب ، عن الورد وهم في سلوة من العيش ، ورغد من الخفض يرمي النّوى بهم المرامي ، فمن شعب يلتئم إلى شعب ، ومن جمع يلتئم مع جمع ومزار تقرّب بعد بعد ، ومطاف يسهل عقيب وعر ، ومواعيد بين الأحبّة أنجزت وعقود من حبال جوار ووصال أوثقت حتّى إذا تحرّك الهيف وهو أوّل الحر ومبدء البوارح ، بدّلت الأرض والدّهر ذو تبدّل ، فمن بقل ذابل وماء غائض ونهي ناضب ، وصيف صائف ، وهيج يشتد وورد يمتد ، وكبد من الماء تحر ، وصبر على بلواه ينفد ويقلّ ، حينئذ ترى ذا الرّاحة يتعب ، والمتأخّر يلحق ، متصدّعين عن مباديهم ، سعيا ومفترقين عن مقارّهم شفقا فكم قلب لفراق الأحبّة جزع ، ودمع لوداعهم همع ، وأنس لبيتهم يقطع ، ووجد ببعدهم تجدّد. وكلّ هذا أتت به الأشعار وترادفت بأمثالها الأخبار ، فمن ذلك قول جرير يذكر سائرة ضمّتها إليهم النّجعة ثم تفرّقوا فأسف لفراقهم. قال شعرا :
ألا أيّها الوادي الذي ضمّ سيله |
|
إلينا نوى ظمياء حيّيت واديا |
فقد خفت ألّا تجمع الدّار بيننا |
|
ولا الدّهر إلا أن نجدّ الأمانيا |
وقولا لواديها الّذي نزلت به |
|
أوادي ذي القيصوم أمرعت واديا |
وقال ذو الرّمة :
حتّى إذا ما استقلّ النّجم في غلس |
|
وأحصد البقل أو ملو ومحصود |
ظللت تخفق أحشائي على كبدي |
|
كأنّني من حذار البين مورود |
من ورد الحمى ، وقال الجعدي يذكر امرأة جاورتهم في مرتع شعرا :
أقامت به حدّ الرّبيع وجارها |
|
أخو سلوة مسّى به اللّيل أملح |
فلمّا انتهى في المرابيع أزمعت |
|
حفوفا وأولاد المصانيف رشّح |
وحبّ السّفا واعترّها القيظ بعد ما |
|
طباهنّ روض من زبالة أفيح |
وحاربت الهيف الشّمال وآذنت |
|
مذانب منها اللّدن والمتصوّح |
وقمن يزورن الهوادج بعد ما |
|
مضى بين أيديها نعام مسرّح |
يريد بأخي السّلوة : الندى لأنّهم في سلوة ورخاء ما أقام لهم ، وهو الأملح لبياضه. وقوله : مسى به اللّيل : لأنّ النّدى باللّيل يسقط. وقوله في المرابيع : يريد سمنها. والمرابيع : جمع المرباع وهي التي من عادتها أن تنتج في أوّل النتاج. والمصانيف : التي تنتج في آخر النّتاج. والرّشح : جمع راشح وهي التي تمسكها أمّها لئلا تسقط وهو التّرشح. ويقول الرّجل لصاحبه : لقيت فلانا يرشح ولد ناقته إذا فعل بها. وقوله : وحاربت الهيف الشّمال. لأن الشّمال والصّبا ريحا البرد. والجنوب والدّبور ريحا الحرّ. والمتصوّح : اليابس المتشقّق ، قال ذو الرّمة :