رسالته : وسرت من شروان في بلاد الأرمن حتى انتهيت إلى تفليس ، وهي مدينة لا إسلام وراءها ، يجري في وسطها نهر يقال له الكرّ يصبّ في البحر ، وفيها غروب تطحن ، وعليها سور عظيم ، وبها حمامات شديدة الحرّ لا توقد ولا يستقى لها ماء ، وعلّتها عند أولي الفهم تغني عن تكلف الإبانة عنها ، يعني أنها عين تنبع من الأرض حارّة وقد عمل عليها حمام فقد استغنت عن استسقاء الماء ؛ قلت : هذا الحمام حدثني به جماعة من أهل تفليس ، وهو للمسلمين لا يدخله غيرهم.
وافتتحها المسلمون في أيام عثمان بن عفّان ، رضي الله عنه ، كان قد سار حبيب بن مسلمة إلى أرمينية فافتتح أكثر مدنها ، فلما توسّطها جاءه رسول بطريق جرزان ، وكان حبيب على عزم المسير إليها فجاءه بالطريق يسأله الصلح وأمانا يكتبه حبيب لهم ، قال : فكتب لهم : أما بعد ، فإنّ رسولكم قدم عليّ وعلى الذين معي من المؤمنين فذكر عنكم أنكم قلتم : إننا أمّة أكرمنا الله وفضّلنا ، وكذلك فعل الله بنا والحمد لله كثيرا ، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه خير البرية من خلقه ، وذكرتم أنكم أحببتم سلمنا ، وقد قوّمت هديتكم وحسبتها من جزيتكم ، وكتبت لكم أمانا واشترطت فيه شرطا فإن قبلتموه ووفيتم به وإلّا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، والسلام على من اتبع الهدى. وكتب لهم مع ذلك كتابا بالصلح والأمان ، وهو : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من حبيب بن مسلمة لأهل تفليس من رستاق منجليس من جرزان الهرمز بالأمان على أنفسهم وبيعهم وصوامعهم وصلواتهم ودينهم على الصغار والجزية على كل بيت دينار ، وليس لكم أن تجمعوا بين البيوتات تخفيفا للجزية ، ولا لنا أن نفرق بينها استكثارا لها ، ولنا نصيحتكم على أعداء الله ورسوله ما استطعتم ، وقرى المسلم المحتاج ليلة بالمعروف من حلال طعام أهل الكتاب لنا ، وإن يقطع برجل من المسلمين عندكم فعليكم أداؤه إلى أدنى فئة من المسلمين إلا أن يحال دونهم ، فإن أنبتم وأقمتم الصلاة فإخواننا في الدين وإلا فالجزية عليكم ، وإن عرض للمسلمين شغل عنكم فقهركم عدوّكم فغير مأخوذين بذلك ولا هو ناقض عهدكم ، هذا لكم وهذا عليكم ، شهد الله وملائكته ، وكفى بالله شهيدا.
ولم تزل بعد ذلك بأيدي المسلمين وأسلم أهلها إلى أن خرج في سنة ٥١٥ من الجبال المجاورة لتفليس يقال لها جبال أبخاز جيل من النصارى يقال لهم الكرج في جمع وافر وأعاروا على ما يجاورهم من بلاد الإسلام ، وكان الولاة بها من قبل الملوك السلجوقية قد استضعفوا لما تواتر عليهم من اختلاف ملوكهم وطلب كلّ واحد الملك لنفسه ، وكان في هذه السنة الاختلاف واقعا بين محمود ومسعود ابني محمد بن ملكشاه ، وجعلها الأمراء سوقا بالانتماء تارة إلى هذا وأخرى إلى هذا ، واشتغلوا عن مصالح الثغور ، فواقع الكرج ولاة أرمينية وقائع كان آخرها أن استظهر الكرج وهزّموا المسلمين ونزلوا على تفليس فحاصروها حتى ملكوها عنوة ، وقتلوا من المسلمين بها خلقا كثيرا ، ثم ملكوها واستقرّوا بها وأجملوا السيرة مع أهلها وجعلوهم رعيّة لهم ، ولم تزل الكرج كذلك أولي قوة وغارات تارة إلى أرّان ومرة إلى أذربيجان ومرة إلى خلاط وولاة الأمر مشتغلون عنهم بشرب الخمور وارتكاب المحظور ، حتى قصدهم جلال الدين منكبرني بن خوارزم شاه في شهور سنة ٦٢٣ وملك تفليس ، وقتل الكرج كل مقتلة ، وجرت له معهم وقائع