من يوم ، ومن مشهور مدن هذا الثغر : أنطاكية وبغراس وغير ذلك ، إلا أن هذا الذي ذكرنا أشهر مدنها.
وقال أحمد بن يحيى بن جابر : كانت الثغور الشامية أيام عمر وعثمان وبعد ذلك أنطاكية وغيرها المدعوّة بالعواصم ، وكان المسلمون يغزون ما وراءها كغزوهم اليوم وراء طرسوس ، وكانت فيما بين الإسكندرية وطرسوس حصون ومسالح للروم كالحصون والمسالح التي يمر بها المسلمون اليوم ، وكان هرقل نقل أهل تلك الحصون معه وشعّثها ، فكان المسلمون إذا غزوها لم يجدوا فيها أحدا ، وربما كمن عندها قوم من الروم فأصابوا غرّة المسلمين المنقطعين عن عساكرهم ، فكان ولاة الشواتي والصوائف إذا دخلوا بلاد الروم خلّفوا بها جندا كثيفا إلى خروجهم ؛ وقد اختلفوا في أول من قطع الدرب ، وهو درب بغراس ، فقيل قطعه ميسرة بن مسروق العبسي ، وجّهه أبو عبيدة فلقي جمعا للروم ومعهم مستعربة من غسّان وتنوخ يريدون اللحاق بهرقل ، فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة ثم لحق به مالك الأشتر النّخعي مددا من قبل أبي عبيدة وهو بأنطاكية ؛ وقال بعضهم : أول من قطع الدرب عمير بن سعد الأنصاري حين توجه في أمر جبلة بن الأيهم ؛ وقال أبو الخطّاب الأزدي : بلغني أن أبا عبيدة بنفسه غزا الصائفة فمر بالمصيصة وطرسوس وقد جلا أهلها وأهل الحصون التي تليها ، فأدرب فبلغ في غزاته زندة ، وقال غيره : إنما وجّه ميسرة بن مسروق فبلغ زندة ، وقال أبو صالح : لمّا غزا معاوية عمورية سنة ٢٥ وجد الحصون فيما بين أنطاكية وطرسوس خالية ، فوقف عندها جماعة من أهل الشام والجزيرة وقنّسرين حتى انصرف من غزواته ثم أغزى بعد ذلك بسنة أو سنتين يزيد بن الحر العبسي الصائفة ، وأمره معاوية أن يفعل مثل فعله ؛ قال : وغزا معاوية سنة ٣١ من ناحية المصيصة فبلغ درولية ، فلما رجع جعل لا يمرّ بحصن فيما بينه وبين أنطاكية إلا هدمه.
قال المؤلف ، رحمه الله : ثم لم يزل هذا الثغر ، وهو طرسوس وأذنة والمصيصة وما ينضاف إليها ، بأيدي المسلمين ، والخلفاء متهمون بأمرها لا يولّونها إلا شجعان القوّاد والراغبين منهم في الجهاد والحروب بين أهلها والروم مستمرة ، والأمور على مثل هذه الحال مستقرة ، حتى ولي العواصم والثغور الأمير سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء بن حمدان ، فصمد للغزو وأمعن في بلادهم ، واتّفق أن قابله من الروم ملوك أجلاد ورجال أولو بأس وجلاد وبصيرة بالحرب والدين شداد ، فكانت الحرب بينهم سجالا إلى أن كان من وقعة مغارة الكحل في سنة ٣٤٩ ، ومن ظفر الروم بعسكر سيف الدولة ورجوعه إلى حلب في خمسة فرسان على ما قيل ؛ ثم تلا ذلك هجوم الروم على حلب في سنة ٣٥١ وقتل كل من قدروا عليه من أهلها ، وكان أن عجز سيف الدولة وضعف ، فترك الشام شاغرا ورجع إلى ميّافارقين والثغر من الحماة فارغا ، فجاءهم نقفور الدمستق ، فحاصر المصيصة ففتحها ثم طرسوس ثم سائر الثغور ، وذلك في سنة ٣٥٤ كما ذكرناه في طرسوس ، فهو في أيديهم إلى هذه الغاية ، وتولاها لاون الأرمني ملك الأرمن يومئذ ، فهي في عقبه إلى الآن ؛ وقد نسبوا إلى هذا الثغر جماعة كثيرة من الرّواة والزهّاد والعبّاد ، منهم : أبو أميّة محمد بن إبراهيم بن مسلم بن سالم الطرسوسي الثّغري ، كذا نسبه غير واحد من المحدثين ، وهو بغدادي المولد ، سكن طرسوس وسمع يوسف بن عمر اليمامي وعمر بن حبيب القاضي ويعقوب بن إسحاق