بعد أن خاطب الله الناس جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها ، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين رؤساءهم ، لأنهم لا يستقلون برأي ، ولا يهتدون بعقل ، وجه الخطاب هنا إلى المؤمنين خاصة ، لأنهم أحق بالفهم ، فأباح لهم أن يأكلوا من رزق الله الطيب الطاهر ، وأمرهم أن يشكروا نعمة الله عليهم ، إن صح أنهم يخصونه بالعبادة ، ويقرون أنه مولي النعم. عن النّبي صلىاللهعليهوسلم : «يقول الله تعالى : إني والجن والإنس في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري». ولما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب ، وكانت وجوه الحلال كثيرة ، وبيّن لهم ما حرم عليهم ، لكونه أقل ، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر.
والأكل من الطيبات مع شكر النعمة موقف وسط يجمع بين متطلبات الجسد والروح معا ، فنأكل للحفاظ على الجسم بلا إسراف ولا تقتير ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ..) [المائدة ٥ / ٨٧ ـ ٨٨] ونغذي الروح بشكر الله على ما أنعم.
ويختلف هذا الموقف الوسط عما كان عليه المشركون وأهل الكتاب قبل الإسلام ، فمنهم من حرم على نفسه أشياء معينة كالبحيرة والسائبة ، ونحوهما ، وساد عند النصارى مبدأ الرهبانية وتعذيب النفس وحرمانها من جميع اللذات ، واحتقار الجسد ولوازمه ، إما بتخصيص ذلك بالرهبان ، أو بتعميمه على الجميع كالحرمان من اللحم والسمن في بعض أنواع الصيام كصوم العذراء والقديسين ، والحرمان من السمك واللبن والبيض في صوم آخر.
والمحرم الحقيقي :
١ ـ إنّما هو تناول الميتة ، لاحتباس الدم فيها وتوقع التضرر بها ، لفساد لحمها وتلوثه بالأمراض غالبا ، فهي محرمة لاستقذارها ولما فيها من ضرر.