فعلى ضوء تقدم علم الأجنّة يكشف لنا في عملية الحمل طرف جسيم ضخم نبيل في صورة حسية مؤثرة :
«.. إن البويضة منذ تلتقي لقاحا بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم ، مزودة بخاصية أكّالة تمزّق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله ، فيتوارد دم الأم إلى موضعها حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من عصارات وخلاصات ، وتمتصه لتحيا به وتنمو ، وهي كأكلة دائبة الأكل لجدار الرحم ، دائمة الامتصاص لمادة الحياة ، فالأم تأكل وتشرب وتهضم لتصبّ هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الأكالة ، وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم ، فهي تفتقر إلى جير بعد جير ، حيث تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هذا الهيكل الصغير ، وهذا قليل من حملها الكثير.
وقد يوحي تنوين التنكير هنا ل «كرها» بنكارة الحمل في زاويتيه هاتين ، وعله المعني من : (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) هناك : وهن الثقل على ذلك الوهن ، بعد الذي ذاقته حين الحمل ، ولأنه مجبور باللذة لم يحسب هنا له حساب فلم يثلث الوهن ، وإنما (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) : «كرها»!
(وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) : كرها تكره فيه الأم حتى نفسها ، دون أن تكره ثمرتها ، رغم أنها تذوى وتموت وتتمزق وتذوب ، ولكنها أم ، حنونة عطوفة لحملها ، لحد قد ترضى أن تموت والحمل لا يموت ، أو تتأذى هي والحمل سليم.
فيا لهذه الوالدة التي تحمل حملها كرها : (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) وتضعه كرها ، مثمرة حملها في مثلث الوهن ، ومربّعة لوهنها في رضاع الحمل ، أن تمتص ثمرة قواتها ، وحصيلة طاقاتها بعد الوضع ، وكما كان قبل الوضع ، فهل له أن يجازيها أقل جزاء ولو بأكثر الإحسان ، كلا ثم كلا.
(الفرقان ـ ٣)