الاستثناء حصر الغاية من الخلقة في العبادة ، حتى يخلو خلق غير العابدين عن أية غاية ، وإنما هي أشرف الغايات ، فالتخلف عنها ينزل بنفسه عن درجات معنية إلى دركات.
(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) : فالرزق يعم رزق الروح والجسم ، فما أريد الالتذاذ من عبادتهم فلست بمستكمل ، ولا أن يطعمون ، فانا مجرد عن الجسم وحاجياته.
(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) : هو الرزاق لا سواه ، وله القوة لا سواه ، وهو المتين لا سواه ، فإنهم مرزوقون ضعفاء هزلاء.
«اللهم اني أخلصت بانقطاعي إليك ، وأقبلت بكلي عليك ، ورأيت ان طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه ، وضلة من عقله ، فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العز بغيرك فذلوا ، وراموا الثروة من سواك فافتقروا ، وحاولوا الارتفاع فاتضعوا .. فأنت يا مولاي دون كل مسئول موضع مسألتي ، ودون كل مطلوب إليه ولي حاجتي» (١).
وفي حديث قدسي يرويه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «يا ابن آدم؟ تفرغ لعبادتي املأ صدرك غني وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك» (٢).
وترى ما هي الحكمة في تقدم الجن هنا ـ وفي موقف العبادة ـ على الإنس ، والإنس أحسن منه تقويما وأفضل تقييما ، وقد اختصت الرسالات الأصيلة بهم دونهم وهم فروع؟.
علّ من الحكم في تقدمهم ذكرا تقدم خلقهم : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (١٥ : ٢٧) وأنهم أكثر من الإنس : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ
__________________
(١) من صحيفة الامام علي بن الحسين السجاد عليه السلام.
(٢) الدر المنثور ٦ : ١١٦ ـ اخرج احمد والترمذي وحسنه وابن ماجه عن أبي هريرة عنه (ص).