(فَغَشَّاها ما غَشَّى) : «غشى» الله إياها «ما غشى» من عذاب الهاوية ، فكما غشوا هم الحق فاهدوه ، كذلك الله غشاهم بما غشوا جزاء وفاقا ، وذلك من آلاء الله للمؤمنين على الكافرين :
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى)؟ فان كلا من هذه الأنباء المذكورة هنا ، وفي صحف ابراهيم وموسى ، إنها من آلاء ربك : نعم الربوبية البالغة الشاملة ، فمن ذا الذي يتمارى فيها تشككا وارتيابا.
والخطاب في «تتمارى» عله لكل من يصح خطابه ، تنديدا بمن يتمارى منهم ، وتسديدا لمن لا يتمارى ، او أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ب «إياك أعني واسمعي يا جارة» أو استفهام تقرير له إذ يقر بآلاء الله كلها ، ولكي يقرر لمن سواه ، فانه نذير لمن مضى :
(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) : هناك طوال تاريخ الرسالات نذر ، من الأولى والوسطى والأخرى ، كتبا ورسلا ، وترى هذا النذير هل هو القرآن ، او نبي القرآن ، او هما على البدل؟ مع العلم أن النذر غير الأولى أولى من الأولى فيمن عليهم دارت الوحى ، اولي العزم من الأنبياء.
علّ الأولى هنا لا يعني الأولى زمنا ، وانما الاولى مكانة ، فكما أن محمدا هو أول العابدين : «قل إن كان للرحمان ولد فانا أول العابدين» (٤٣ : ٨١) كذلك هو من أولى النذر وأولاهم : أولي العزم الخمسة الذين هم مدار الرسالات كلها ، كما القرآن النذير (لَإِحْدَى الْكُبَرِ. نَذِيراً لِلْبَشَرِ) (٧٤ : ٣٦).
فهذا النبي الكريم ، وبقرآنه العظيم (نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) وهم الأولى تبشيرا وإنذارا : الخمسة العظماء ، إنه منهم في أصالة الإنذار ، والرسالة الأصيلة العالمية ، والشريعة المستقلة ، فليس بدعا من الرسل : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) (٤٦ : ٩) إذ نبئ كما نبئوا ، وأرسل كما أرسلوا ، ودعى إلى الله والصالحات كما دعوا ، اللهم إلّا أن فيه وفي قرآنه المبين ، وتبيانه المتين ، فيها