الدخان تكوّنت السماء.
ويقال : إنّه أخذه من التوراة ؛ لأنّه جاء في السفر الأوّل منه (١) : «إنّ الله تعالى خلق جوهرا ، فنظر [إليه] نظرة الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء ، ثمّ ارتفع [منه] بخار كالدخان فخلق منه السماوات ، وظهر على وجه الماء زبد فخلق منه الأرض ، ثمّ أرساها بالجبال».
ونقل صاحب الملل عن تاليس الملطي أنّه قال : إنّ المبدأ الأوّل أبدع العنصر الذي فيه صور الموجودات والعدمات كلّها ، فانبعث من كلّ صورة موجود في العالم على المثال الذي في العنصر الأوّل فحمل الصور ومنبع الموجودات هو ذات العنصر. وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسّي إلّا وفي ذات العنصر صورة ومثال عنه.
قال : ويتصوّر العامة أنّ صور المعدومات في ذات المبدأ الأوّل ، لا بل هي في مبدعه ، وهو تعالى بوحدانيته أن يوصف بما يوصف به مبدعه.
ثمّ قال : ومن العجب أنّه نقل عنه : المبدع الأوّل هو «الماء» ومنه ابدع الجواهر كلّها من السماء والأرض وما بينهما ؛ فذكر أنّ من جموده تكوّنت الأرض ، ومن انحلاله تكوّن الهواء ومن صفوة الهواء تكوّنت النار ، ومن الدخان والأبخرة تكوّنت السماء ، ومن الاشتغال الحاصل من الأثير تكوّنت الكواكب فدارت حول المركز دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل فيها إليه.
__________________
(١) ما وجدنا العبارة في السفر الأوّل ولا في بقية الأسفار من التوراة وقد يعبّر الفارابي عن هذه الأقوال بالأعاجيب ، حيث قال في باب حدوث العالم : «ومن أحبّ الوقوف على ذلك فلينظر في الكتب المصنفة في المبدءات والأخبار المروية فيها والآثار المحكية عن قدمائهم ، ليرى الأعاجيب من قولهم بانّه كان في الأصل ماء فتحرك واجتمع زبد وانعقد منه الأرض وارتفع منه الدخان وانتظم منه السماء» ، الجمع بين رأيي الحكيمين : ١٠٣.