وكل ما ترجمناه إلى منقطع الاعتقاد ، واقع في القسم الثالث من الأقسام التي رسمناها ، وهو الكلام فيما يجوز في أحكام الله تعالى.
فصل
العقل لا يدل على حسن شيء ولا قبحه في حكم التكليف ، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع. وأصل القول في ذلك أن الشيء لا يحسن لنفسه وجنسه وصفة لازمة له ، وكذلك القول فيما يقبح وقد يحسن في الشرع ما يقبح مثله المساوي له في جملة أحكام صفات النفس.
فإذا ثبت أن الحسن والقبح عند أهل الحق لا يرجعان إلى جنس وصفة نفس ، فالمعنى بالحسن ما ورد الشرع بالثناء على فاعله ، والمراد بالقبيح ما ورد الشرع بذمّ فاعله. وذهبت المعتزلة إلى أن التحسين والتقبيح من مدارك العقول على الجملة ، ولا يتوقف إدراكهما على السمع ، وللحسن بكونه حسنا صفة ؛ وكذلك القول في القبيح عندهم. هذه قاعدة مذهبهم ، وربما يتخبطون فيها ، ويمتنع عليهم في مجاري المذهب صرف الحسن والقبح إلى صفتين للحسن والقبيح.
ومما يجب الإحاطة به قبل الخوض في المحاجة ، أن أئمتنا تجوزوا في إطلاق لفظة ، فقالوا : لا يدرك الحسن والقبح إلا بالشرع ، وهذا يوهم كون الحسن والقبح زائدا على الشرع ، مع المصير إلى توقف إدراكه عليه. وليس الأمر كذلك ؛ فليس الحسن صفة زائدة على الشرع مدركة به ، وإنما هو عبارة عن نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله ، وكذلك القول في القبيح. فإذا وصفنا فعلا من الأفعال بالوجوب أو الحظر ، فلسنا نعني بما نبينه تقدير صفة للفعل الواجب يتميز بها عما ليس بواجب ؛ وإنما المراد بالواجب الفعل الذي ورد الشرع بالأمر به إيجابا ، والمراد بالمحظور الفعل الذي ورد الشرع بالنهي عنه حظرا وتحريما.
ثم المعتزلة قسموا الحسن والقبيح ، وزعموا أن منها ما يدرك قبحه وحسنه على الضرورة والبديهة من غير احتياج إلى نظر ، ومنها ما يدرك الحسن والقبح فيه بنظر عقلي. وسبيل النظر عندهم اعتبار النظريّ من المحسنات والمقبحات بالضروريّ منها ؛ بل يعتبر مقتضى القبيح والتحسين في الضروريات فيلحق بها ، ثم يرد إليها ما يشاركها في مقتضياتها. فالكفر عندهم معلوم قبحه على الضرورة ، وكذلك الضرر المحض الذي لا يتحصل فيه غرض صحيح ، إلى غير ذلك من تخيلاتهم.
وسبيلنا أن نوجه عليهم القول ، فنقول : ما ادعيتم قبحه أو حسنه ضرورة فأنتم فيه منازعون ، وعن دعواكم مدفوعون. وإذا بطل ادعاء الضرورة في الأصول ، بطل رد النظريات إليها. وهذه الطريقة على إيجازها تهدم أصول المعتزلة في التقبيح والتحسين. وإذا تناقضت هذه الأصول ، وقولهم في الصلاح واللطف وأبواب الثواب والعقاب وغيرها متلقى منها ، فينحسم عليها أبواب الكلام في فصول التعديل والتجوير.