فنقول لهم : لم ادعيتم العلم الضروري بالحسن والقبح مع علمكم بأن مخالفيكم طبقوا وجه الأرض ، وأقل شرذمة منهم يزيدون على عدد أقل التواتر ، ولا يسوغ اختصاص طائفة من العقلاء بضرب من العلوم الضرورية مع استواء الجميع في مداركها؟
فإن قالوا : قد وافقتمونا على التحسين والتقبيح في مواقع الضروريات ، وإنما خالفتمونا في الطريق المؤدي إلى العلم ، فزعمتم أن الدال على الحسن والقبح السمع دون العقل. ولا يبعد اختلاف العقلاء في العلم الضروري على هذا الوجه ، فإن الأخبار المتواترة يعقبها العلم الضروري.
وقد ذهب الكعبي وأشياعه إلى أن طريق العلم بما تواترت الأخبار به وعنه الاستدلال ، وذلك لا يقدح في وقوع العلم الضروري بما تواتر الخبر عنه.
وهذا الذي ذكروه لا محصول له. وقد مرّ في تفصيلنا المذهب قبل ما يسقطه. فإننا قلنا ليس الحسن والقبح صفتين للقبيح والحسن وجهتين يقعان عليهما ، ولا معنى للحسن والقبح إلا نفس ورود الأمر والنهي ؛ فالذي أثبتته المعتزلة ، من كون الحسن والقبيح على صفة وحكم ، قد أنكرناه عقلا وسمعا. ومجموع ذلك يوضح أنا لم نجتمع على المطلوب مع الاختلاف في السبيل المفضي إليه ، وهذا بيّن لمن تدبره.
ومما يوضح الحق درؤهم عن دعوى الضرورة ، أن الذي ادعوه قبيحا على البديهة ، قد أطبق مخالفوهم على تجويزه واقعا من أفعال الله تعالى ، مع القطع بكونه حسنا. فإنهم قالوا : إن للرب تعالى أن يؤلم عبدا من عبيده ابتداء من غير استحقاق ولا تعويض على الألم ، ومن غير جلب نفع ودفع ضر موفيين على الألم.
ثم كما قطعوا بتجويز ذلك في أحكام الله تعالى ، فكذلك قطعوا بأنه لو وقع لكان حسنا ، وهذا ما لا سبيل إلى دفعه ، وفيه فرض تحسين العقل في الصورة التي ادعى المعتزلة العلم الضروري بالتقبيح فيها. ومهما استبان تحكمهم بدعوى الضرورة لم يسلموا ممن يعارض دعواهم بنقيضها ، ويدّعي العلم الضروري بحسن ما قبحوه وقبح ما حسنوه.
فإن قالوا : الدليل على أن القبح والحسن يدركان عقلا ، أن منكري الشرائع وجاحدي النبوات يعلمون قبح الظلم والكفران وحسن الشكر ، ولو كان الأمر يتوقف في ذلك على السمع لما أحاط من أنكره بالحسن والقبح ؛ وهذا الذي ذكروه لا محصول له. وأول ما فيه ، أنه احتجاج في موضع الضرورة على دعواهم ، ولا يستمر النظر في موضع البداية.
ثم نقول : إنما يستمر لكم ما ذكرتموه ، لو سلم لكم كون البراهمة (١) المنكرين الشرع عالمين بالحسن والقبيح ، وهذا مما ينازعون فيه ، ولا بعد في تصميم طوائف على اعتقادهم مع حسبانهم إياه
__________________
(١) ينسبون إلى براهم الذي مهد لهم نفي النبوات أصلا وقرر استحالة ذلك في العقول بوجوه ذكره الشهرستاني في كتابه الملل والنحل. وقد تفرقوا أصنافا فمنهم أصحاب البددة ، ومنهم أصحاب الفكرة ، ومنهم أصحاب التناسخ.