علما وإن لم يكن علما ، وهذا سبيل اعتقاد المقلدين في أصول الدين.
والذي يقرر ما قلناه ، أن البراهمة كما وافقوا المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين على زعمهم ، فكذلك اعتقدوا قبح ذبح البهائم والتسليط على إيلامها ، وتعريضها للنصب والتعب. ثم اعتقادهم بذلك ليس بعلم وإنما هو جهل. وكما لا يبعد تصميمهم على جهل ، فكذلك لا يبعد إصرارهم على اعتقاد ليس بعلم.
ومما يعول المعتزلة عليه في ادعاء الضرورة ، أنهم قالوا : العاقل إذا سنحت له حاجة ، وغرضه منها يحصل بالصدق ويحصل أيضا بالكذب يصدر عنه ، ولا مزية لأحدهما على الثاني في تمكنه من جلب الانتفاع بهما واندفاع الضرر عنه بهما ؛ فإذا تساويا لديه ، وتماثلا من كل وجه ، فالعاقل يؤثر الصدق لا محالة ويجتنب الكذب. وإنما يختار الكذب إذا تخيل له فيه غرض زائد على ما يتوقعه في الصدق ، فأما إذا تساوت الأغراض فالعقل قاض بالإعراض عن الكذب وإيثار الصدق ، وما ذلك إلا لكون الصدق حسنا عقلا.
وهذا الذي ذكروه باطل من وجوه : أحدها أنه روم احتجاج في موضع اتفاقهم على أنه ضروري ؛ والثاني أن ما ذكروه وصوروه متناقض ؛ فإن الكذب القبيح لعينه يستحق المقدم عليه اللوم والذم والعقاب على الجملة والاتصاف بالدنيات وسمات النقص ، وهذا موجب قول المعتزلة. فكيف يستقيم منهم تصوير استواء الصدق والكذب ، وتقدير تماثل الأغراض فيهما ، ومذهبهم ما ذكرناه؟
والذي يحقق مقصودنا ، أن ما ذكروه من أن العاقل يؤثر الصدق لا محالة إذا استوت عنده الأغراض ، يوجب عليهم خروج الصدق عن حكم التكليف واستحقاق الثواب على فعله والعقاب على تركه. فإن الملجأ إلى الشيء المحمول عليه ، لا ثواب له على ما هو مجبر عليه ، فيجب أن يكون الصدق على قياس ما قالوه في حكم ما يجبر العاقل عليه. ثم إنما استقام لهم ما حاولوه ، لطردهم كلامهم في حالة استقرار الشرائع في تقبيح الكذب وتحسين الصدق.
فإن قالوا : فرضنا الكلام فيمن ينكر الشرائع ، أو فيمن لم يبلغه الشرع أصلا ، فإن العاقل مع هذا الغرض يؤثر الصدق. قلنا : إنما ذلك لاعتقاد من صورتم الكلام فيه استحقاق الذم على الكذب عقلا ، وذلك محظور مجتنب ؛ فإن صور ذلك فيمن لا يقول بتقبيح العقل وتحسينه ، ولم يبلغه الشرع ، واستوى لديه الصدق والكذب من كل وجه ؛ فلسنا نسلم ، والحالة هذه ، أنه يؤثر الصدق لا محالة ، بل يمتنع من إيثار الصدق وإيثار الكذب جميعا ، فبطل ما موهوا به.
ومما يستروحون إليه ، أن قالوا : إن الحسن لو لم يعقل قبل ورود الشرع ، لما فهم أيضا عند وروده. وهذا من ركيك الكلام ؛ فإنا إذا صرفنا الحسن والقبح في حكم التكليف إلى ورود الأمر والنهي ، فلا يمتنع العلم بالأمر إذا قدر وروده قبل وروده. وهذا بمثابة العلم بالنبوءة ؛ فنعلم قبل