ظهور المعجزات أن الدال على صدق من يجوز أن يبعث خوارق العادات ، ونعتقد ذلك قبل اتفاق وقوع المعجزات ، ودعوى النبوءات.
وربما يشغبون بالرجوع إلى العادات ويقولون : العقلاء يستحسنون الإحسان وإنقاذ الغرقى وتخليص الهلكى ، ويستقبحون الظلم والعدوان ، وإن لم يحضر لهم سمع. وهذا تلبيس وتدليس ؛ فإنا لا ننكر ميل الطباع إلى اللذات ونفورها عن الآلام ، والذي استشهدوا به من هذا القبيل وإنما كلامنا فيما يحسن في حكم الله تعالى وفيما يقبح فيه.
والدليل على ما قلناه ، أن العادات كما اطردت ، على زعمهم في استقباح العقلاء واستحسانهم ، فكذلك استمر دأب أرباب الألباب في تقبيح تخلية العبيد والإماء يفجر بعضهم ببعض ، بمرأى من السادة ومسمع ، وهم متمكنون من حجز بعضهم عن بعض. فإذا تركوهم سدّى والحالة هذه كان ذلك مستقبحا ، على الطريقة التي مهدوها ، مع القطع بأن ذلك لا يقبح في حكم الإله.
فإن قيل : هذا كلامكم في تتبع شبه المخالفين ، فما دليلكم على ما ارتضيتموه؟ ولم غيرتم الترتيب وافتتحتم المسألة بذكر شبههم؟ قلنا : إنما حملنا على ذلك ادعاء خصومنا الضرورة في أصول التقبيح والتحسين ؛ فلو فاتحناهم بمنهاج الحجاج ، لردوه جريا على ما اعتقدوه من دعوى الضرورة في أصول التقبيح والتحسين.
فمن أصرّ منهم على دعواه ، وهو مذهب كافتهم ، فسبيل مكالمتهم ما مضى ؛ ومن انحط عن دعوى الضرورة احتججنا عليه ، وقلنا : إذا وصف الشيء بكونه قبيحا ، لم يخل ذلك من أمرين ؛ إما أن يقال : كونه قبيحا يرجع إلى نفسه أو إلى صفة نفسه ؛ وإما أن يقال : إنه لا يرجع إلى نفسه ، ولا إلى صفة نفسه.
فإن قيل : إنه يرجع إلى نفسه أو إلى صفة نفسه ، كان ذلك باطلا من أوجه ؛ أقربها أن القتل ظلما يماثل القتل حدا واقتصاصا ، ومن أنكر تساوي الفعلين ومماثلة القتلين فقد جحد ما لا يجحد ، والتزم انتفاء الثقة بتماثل كل مثلين. ومما يوضح فساد هذا القسم ، أن ما يصدر من العاقل لو صدر من صبيّ غير مكلف ، فإنه لا يتصف بكونه قبيحا مع وجوده. ومنهم من ينازع في ذلك ويزعم أن الصادر من الصبيّ غير المكلف قبيح ؛ فإن قالوا ذلك ، التقينا بالوجه الأول.
وإذا بطل كون القبيح قبيحا لنفسه ، لم يخل القول بعد ذلك ؛ إما أن يقال : معنى كونه قبيحا ورود الشرع بالنهي عنه ، كما صرنا إليه ، وهو الحق الصراح ؛ وإما أن يقال : إنما يقبح لأمر غير الشرع وغير القبيح. فإن هم قالوا ذلك ، قيل لهم : إذا لم يقبح الشيء لنفسه ، ولم يحمل قبحه على تعلق النهي به ، فيستحيل أن تقبح صفة لأجل صفة أخرى ، وليست تلك الصفة صفة للقبيح نفسية ولا معنوية. فثبت من مجموع ذلك بطلان تقبيح الفعل وتحسينه في حكم التكليف.
وقد تعدينا في هذا الفصل حد الاختصار قليلا ، لما ألفيناه أصلا لكل ما يأتي بعده في أحكام