التعديل والتجويز. وستجدون المسائل بعد ذلك مرتبة على هذه القاعدة ، وفي الإحاطة بها إبطال ما سواها ؛ فهذه إحدى المقدمتين الموعودتين.
فصل
في المقدمة الثانية ، وهي تشتمل على الرد على من قال إن العقل دل على وجوب واجب ، وهذا ينقسم قسمين ؛ فيتعلق الكلام في أحدهما بما يقدر واجبا على العبد ، ويتعلق الكلام في الثاني بالرد على من اعتقد وجوب شيء على الباري تعالى عن أقوال المبطلين.
فأما القسم الأول ، فإنه يضاهي المسألة السابقة في التقبيح والتحسين. وكل ما ذكرناه من شبههم وادعاءاتهم الضرورة ، وقدحنا فيها واحتجاجنا به ، فهو يعود في هذه المسألة.
وربما يصوغون لإثبات وجوب شكر المنعم عقلا صيغة أخرى ، ويقولون : العاقل إذا علم أن له ربا ، وجوز في ابتداء نظره أن يريد منه الرب المنعم شكرا ؛ ولو شكره لأثابه وأكرم مثواه ، ولو كفر لعاقبه وأراده ؛ فإذا خطر له الجائزان ، فالعقل يرشده إلى إيثار ما يؤديه إلى الأمن من العقاب وارتقاب الثواب. وضربوا لذلك مثلا ، فقالوا : من تصدى له في سفرته مسلكان يؤدي كل واحد منهما إلى مقصده ، وأحدهما خلي عن المخاوف عريّ من المتالف ، والثاني يشتمل على المعاطب واللصوص وضواري السباع ، ولا غرض له في السبيل المخوف ، فالعقل يقضي بسلوك السبيل المأمون.
وهذا الذي ذكروه ، اقتصار منهم على شطر نظر لو أنهوه نهايته لبلّغهم الحق. وذلك أنه إن خطر له ما قالوه ، فيعارضه خاطر آخر يناقضه ؛ وذلك أن يخطر للعاقل أنه عبد مملوك مخترع مربوب ، وأنه ليس للمملوك إلا ما أذن له فيه مالكه ، ولو أتعب نفسه وأنصبها لصارت مكدودة مجهودة من غير إذن ربها. وقد يعتضد هذا الخاطر عنده بأن الرب المنعم غنيّ عن شكر الشاكرين ، متعال عن الاحتياج ؛ وأنه عزوجل كما يبتدئ بالنعم قبل استحقاقها ، لا يبتغي بدلا عليها فإذا عارض هذا الخاطر ما ذكروه ، قضى العقل بتوقف من خطر له الخاطران.
ومما يؤكد ما قلناه ، أن الملك المعظم إذا منح عبدا من عبيده بكسرة من رغيف ، ثم أراد ذلك العبد أن يتدرج في المشارق والمغارب ويثني على الملك بحبائه وحسن عطائه وينص على إنعامه ، فلا يعد ذلك مستحسنا ؛ فإن ما صدر من الملك بالإضافة إلى قدره ، نزر مستحقر تافه مستصغر ، وجملة النعم بالإضافة إلى قدرة الله تعالى ، أقل وأذل من كسرة رغيف إلى ملك ملك.
وإن أردنا أن ننقض عليهم ما ذكروه من وجه آخر ، فرضنا الكلام فيمن لم يحط بالمنعم أولا ؛ فإذا طردوا ما قالوه من تقابل الخاطرين ، قلنا لهم : هذا قولكم فيمن خطرت له الفكر وعنت له العبر ، فما قولكم في الغافل الذاهل الذي لم يخطر بباله شيء؟ فهذا قد فقد الطريق إلى العلم بالوجوب ، والشكر حتم عليه. وهذا عظيم موقعه على الخصوم.
فإن قالوا : لا بد أن يخطر الله تعالى ببال العاقل في أول كمال عقله ما ذكرناه ، فهذا تلاعب