فهذه حقيقة التوبة وصفتها ، وذكر ما يلازمها من الصفات عموما وما يلازمها في بعض الأحوال. فإن قيل : ما معنى قولكم : التوبة ندم لأجل ما وجب له؟ قلنا : هذا التقييد لا بد منه. فإن من قارف سيئة ، وندم عليها لإضرارها به ، وانتهاكها قواه ، فهو نادم غير تائب وإنما التوبة الشرعية الندم على ما فات من رعاية حقوق الله تعالى.
فصل
لا يجب على الله تعالى قبول التوبة عقلا ، وقد أطبقت المعتزلة على أن قبول التوبة حتم على الله ، تعالى عن قولهم ، وقد سبق الدليل العام في نفي الوجوب على الله تعالى. ثم لو رجعنا إلى الشاهد لم يشهد لوجوب قبول التوبة ؛ فإن من أساء مع غيره ، واهتضم حرمته وأبلغ في عداوته ، ثم جاء معتذرا ، فلا يتحتم في حكم العقل قبول توبته ، بل الخيرة إلى من اهتضم ولم يرع حقه ؛ فإن شاء صفح ، وإن شاء أضرب عنه ، ولا شك فيما قلناه.
والذي يشهد لذلك من السمع ، إجماع الأمة على الرغبة إلى الله تعالى في قبول التوبة ، والخضوع له في الابتهال إليه رجاء قبولها ؛ فلو كان قبول التوبة حتما ، لما كان للرغبات والإلحاح في الدعوات معنى.
فإن قيل : هذا قولكم في العقل وموجبه ، فما قولكم في قبول التوبة سمعا ، هل ثبت قطعا أم لا؟ قلنا : لم يثبت ذلك عندنا قطعا ؛ بل هو مرجوّ مظنون ؛ ولم يثبت ظن قاطع لا يقبل التأويل في ذلك ، فقطعنا بنفي وجوب القبول عقلا ، ولم نقطع بالقبول سمعا ووعدا ، بل نظنه ظنا. ويغلب ذلك على الظنون ، إذا توفرت على التوبة شرائطها.
فصل
التوبة واجبة على العبد ، ولا يدل على وجوبها عليه عقل ؛ إذ لا يثبت شيء من الأحكام الشرعية بالعقل. ولكن الدليل عليه إجماع المسلمين على وجوب ترك الزلات والندم على ما تقدم منها.
ثم التوبة تنقسم : فمنها ما يتعلق بحق الله تعالى على التمحض ، ومنها ما يتعلق بحقوق الآدميين.
فأما ما يتعلق بحق الله على التمحض ، فيصح دون مراعاة غيره ؛ وأما ما يتعلق بحقوق الآدميين فينقسم ؛ فمنه ما لا يصح دون الخروج عن حق الآدميين ، ومنه ما يصح دونه. فأما ما يصح دونه فهو كل ما يتصور فيه حقيقة الندم مع دوام وجوب حق الآدميين.
ونظير ذلك ، القتل الموجب للقود ، فيصح الندم عليه ، من غير تسليم القاتل نفسه ليستقاد منه. فإذا ندم صحت توبته في حق الله تعالى ، وكان منعه من القصاص من مستحقه معصية متجددة لا تقدح في التوبة ، بل تستدعي في نفسها خروجا عنها ، وتوبة منها. وربما تتعلق التوبة بحق الآدميين ،