فإذا تبين ذلك في معنى الوقت ، فليس من شرط وجود الشيء أن يقارنه موجود آخر ، إذا لم بتعلق أحدهما بالثاني في قضية عقلية ، ولو افتقر كل موجود إلى وقت ، وقدرت الأوقات موجودة ، لافتقرت إلى أوقات ، وذلك يجر إلى جهالات لا ينتحلها عاقل ، والباري سبحانه قبل حدوث الحوادث منفرد بوجوده وصفاته ، لا يقارنه حادث.
فصل
الباري سبحانه وتعالى قائم بنفسه ، متعال عن الافتقار إلى محل يحله أو مكان يقله. واختلفت عبارات الأئمة رحمهمالله تعالى ، في معنى القائم بالنفس ؛ فمنهم من قال : هو الموجود المستغني عن المحل ، والجوهر على ذلك قائم بنفسه ؛ وقال الأستاذ الإمام أبو إسحاق رحمهالله (١) : القائم بالنفس هو الموجود المستغني عن المحل والمخصص ؛ وذلك يختص عنده بالباري تعالى ، إذ الجوهر ، وإن لم يفتقر إلى محل يحله ، فقد افتقر وجوده ابتداء إلى مخصص قادر.
والغرض المعنيّ من هذا الفصل ، هو إقامة الدليل على تقدس الرب تبارك وتعالى عن الحاجة إلى محل. والدليل عليه أنه لو حل محلا ، وافتقر وجوده إليه ، لكان المحل قديما ولكان هو صفة له ، إذ كل محل موصوف بما قام به ، والصفة يستحيل أن تتصف بالأحكام التي توجبها المعاني. وسنبين وجوب اتصاف الباري بكونه حيا عالما قادرا.
فصل
من صفات نفس القديم تعالى مخالفته للحوادث ، فالرب تعالى لا يشبه شيئا من الحوادث ، ولا يشبهه شيء منها.
ولا بد في صدر هذا الفصل من التنبيه على حقيقة المثلين والخلافين. فالمثلان كل موجودين سدّ أحدهما مسدّ الآخر ، وربما قيل في أحدهما : هما الموجودان اللذان يستويان فيما يجب ويجوز ويستحيل ، والأولى العبارة الأولى. والمختلفان كل موجودين ثبت لأحدهما من صفات النفس ما لم يثبت للثاني.
وذهب ابن الجبائي (٢) ومتأخرو المعتزلة إلى أن المثلين هما الشيئان المشتركان في أخص الصفات. ثم قالوا : الاشتراك في الأخص يوجب الاشتراك فيما عداه من الصفات غير المعللة ؛
__________________
(١) هو الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الأسفرايني الملقب بركن الدين ، له كتاب جليل وقيم هو «جامع الحاوي في أصول الدين والرد على الملحدين» توفي عام ٤١٨. انظر ابن خلكان.
(٢) هو أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي وأتباعه البهشميون مات ببغداد عام ٣٢١. انظر طبقات المعتزلة ص ٩٤ ـ ٩٦.