ذاتا ، لكان ذلك تشبيها منهم له بالحوادث ، إذ هي ذوات موجودات. وسلكوا مسلك النفي فيما يسألون عنه من صفات الإثبات. فإذا قيل لهم الصانع موجود ، أبوا ذلك ، وقالوا : إنه ليس بمعدوم.
وهذا الذي قالوه لا تحقيق له. فإنا نقول : باضطراد نعلم أنه ليس بين الانتفاء والثبوت درجة ؛ وهؤلاء إن نفوا الصانع أقيمت عليهم الدلائل في إثبات العلم به ، وإن أثبتوه لزمهم من إثباته ما حاذروه ، إذا الحوادث ثابتة تتضمن إثباته. فإن زعموا أن الصانع ثابت ولكن لا نسميه ثابتا ، لم يغنهم ذلك ؛ فإن التماثل والاختلاف يتعلقان بما يثبت عقلا ، دون ما يطلق في اللغات والتسميات ثم يلزمهم أن يصفوا الرب تعالى بالوجود ، ويمتنعوا من وصف الحوادث به ، ففي ذلك حصول غرضهم ؛ فبطل ما قالوه من كل وجه.
فإن قيل : فهل تطلقون القول بأن الله تعالى يماثل الحوادث في الوجود ، أم تأبون ذلك؟ قلنا : هذا ما لا سبيل إلى إطلاقه ؛ فإن القائل إذا قال الرب تعالى يماثل الحوادث ، فقد وصف ذاته بالمماثلة ، وإنما يشارك القديم الحادث في حكم واحد ، فلا وجه لإطلاق التشبيه والتمثيل عموما ، ثم رده إلى خصوص ، بل الوجه أن يقال : حقيقة الوجود تثبت على وجه واحد شاهدا وغائبا ، فيقع التعرض لما فيه الاشتراك دون ما عداه.
فإن قيل : ألستم تطلقون كونه مخالفا لخلقه ، وإن كان مشاركا للحوادث في الوجود؟ قلنا : المخالفة بين الخلافين لا تجري مجرى المماثلة ؛ فإن المماثلة من حقيقتها تساوي المثلين الموصوفين بها في جميع صفات النفس ، والمخالفة لا تقتضي الاختلاف في جميع الصفات ؛ إذ لا تتحقق المخالفة إلا بين موجودين ، فمن ضرورة إطلاق المخالفة التعرض لاشتراك المختلفين في الوجود. فلما اقتضت المماثلة تعميم الاشتراك في صفات النفس لم نطلقها ، والاختلاف ليس من موضوعه التباين في كل الصفات.
فصل
فإن قال قائل : قد ذكرتم أنه لا يمتنع اشتراك القديم والحادث في بعض صفات الإثبات ، ففصّلوا ما يختص بالحوادث من الصفات ، وهي تستحيل في حكم الإله. قلنا : نذكر أولا ما يختص الجواهر به. فمما تختص الجواهر به التحيز ، ومذهب أهل الحق قاطبة أن الله سبحانه وتعالى يتعالى عن التحيز والتخصص بالجهات.
وذهبت الكرّامية (١) وبعض الحشوية (٢) إلى أن الباري ، تعالى عن قولهم ، متحيز مختص بجهة
__________________
(١) شيخهم هو أبو عبد الله محمد بن كرّام السجستاني. دعا أتباعه إلى تجسيم معبوده وكان يقول بأن الله مماسّ لعرشه وأن العرش مكان له تعالى الله عما يقول. انظر الفرق بين الفرق.
(٢) أيضا دعوا إلى التجسيم حتى قالوا : إن لله تعالى جسما.