فوق ، تعالى الله عن قولهم. ومن الدليل على فساد ما انتحلوه أن المختص بالجهات يجوز عليه المحاذاة مع الأجسام ، وكل ما حازى الأجسام لم يخل من أن يكون مساويا لأقدارها ، أو لأقدار بعضها ، أو يحازيها منه بعضه ، وكل أصل قاد إلى تقدير الإله أو تبعيضه فهو كفر صراح. ثم ما يحازي الأجرام يجوز أن يماسها ، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها كان حادثا ، إذ سبيل الدليل على حدث الجواهر قبولها للمماسة والمباينة على ما سبق. فإن طردوا دليل حدث الجواهر ، لزم القضاء بحدث ما أثبتوا متحيزا ؛ وإن نقضوا الدليل فيما ألزموه ، انحسم الطريق إلى إثبات حدث الجواهر.
فإن استدلوا بظاهر قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [سورة طه : ٥] ، فالوجه معارضتهم بآي يساعدوننا على تأويلها ، منها قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد : ٤] ، وقوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [سورة الرعد : ٣٣]. فنسائلهم عن معنى ذلك ؛ فإن حملوه على كونه معنى بالإحاطة والعلم ، لم يمتنع منا حمل الاستواء على القهر والغلبة ، وذلك شائع في اللغة ، إذ العرب تقول استوى فلان على الممالك إذا احتوى على مقاليد الملك واستعلى على الرقاب. وفائدة تخصيص العرش بالذكر أنه أعظم المخلوقات في ظن البرية ، فنص تعالى عليه تنبيها بذكره على ما دونه.
فإن قيل : الاستواء بمعنى الغلبة ينبئ عن سبق مكافحة ومحاولة ، قلنا : هذا باطل ، إذ لو أنبأ الاستواء عن ذلك لأنبأ عنه القهر. ثم الاستواء بمعنى الاستقرار بالذات ينبئ عن اضطراب واعوجاج سابق ، والتزام ذلك كفر. ولا يبعد حمل الاستواء على قصد الإله إلى أمر في العرش ، وهذا تأويل سفيان الثّوري رحمهالله واستشهد عليه بقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [سورة فصلت : ١١] ، معناه قصد إليها.
فإن قيل : هلا أجريتم الآية على ظاهرها من غير تعرض للتأويل ، مصيرا إلى أنها من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله ، قلنا : إن رام السائل إجراء الاستواء على ما ينبئ عنه في ظاهر اللسان ، وهو الاستقرار ، فهو التزام للتجسيم ؛ وإن تشكك في ذلك كان في حكم المصمم على اعتقاد التجسيم ، وإن قطع باستحالة الاستقرار ، فقد زال الظاهر ، والذي دعا إليه من إجراء الآية على ظاهرها لم يستقم له ، وإذا أزيل الظاهر قطعا فلا بد بعده في حمل الآية على محمل مستقيم في العقول مستقر في موجب الشرع. والإعراض عن التأويل حذرا من مواقعة محذور في الاعتقاد يجر إلى اللبس والإيهام ، واستزلال العوام ، وتطريق الشبهات إلى أصول الدين ، وتعريض بعض كتاب الله تعالى لرجم الظنون. والمعنيّ بقوله تعالى : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [سورة آل عمران : ٧] الآية. مراجعة منكري البعث لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في استعجال الساعة ، والسؤال عن منتهاها وموقعها ومرساها. والمراد بقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [سورة آل عمران : ٧] ، أي وما يعلم مآله إلا الله ، ويشهد