فاعلموا وقيتم البدع ، أن من مذهب أهل الحق : أن الباري سبحانه وتعالى متكلم بكلام أزلي ، لا مفتتح لوجوده.
وأطبق المنتمون إلى الإسلام على إثبات الكلام ، ولم يصر صائر إلى نفيه ، ولم ينتحل أحد في كونه متكلما نحلة نفاة الصفات في كونه عالما قادرا حيّا.
ثم ذهبت المعتزلة ، والخوارج (١) ، والزيدية (٢) ، والإمامية (٣) ، ومن عداهم من أهل الأهواء ، إلى أن كلام الباري ، تعالى عن قول الزائغين ، حادث مفتتح الوجود.
وصار صائرون من هؤلاء إلى الامتناع من تسميته مخلوقا مع القطع بحدثه ، لما في لفظ المخلوق من إيهام الخلق ، إذ الكلام المخلوق هو الذي يبديه المتكلم تخرصا من غير أصل.
وأطلق معظم المعتزلة لفظ المخلوق على كلام الله تعالى ، وذهبت الكرامية إلى أن كلام الله قديم ، والقول حادث غير محدث ، والقرآن قول الله ، وليس بكلام الله ؛ وكلام الله عندهم القدرة على الكلام ، وقوله حادث قائم بذاته ، تعالى عن قول المبطلين ؛ وهو غير قائل بالقول القائم به ، بل قائل بالقائلية ، وكل مفتتح وجوده قائم بالذات ، فهو حادث بالقدرة غير محدث ؛ وكل مفتتح مباين للذات ، فهو محدث بقوله : «كن» لا بالقدرة ، في هذيان طويل ، لا يسع هذا المعتقد استقصاؤه.
وغرضنا من إيضاح الحق والرد على متنكبيه لا يتبين إلا بعد عقد فصول في ماهية الكلام وحقيقته شاهدا ، حتى إذا وضحت الأغراض منها انعطفنا بعدها إلى مقصدنا. وقد التزمنا التمسك بالقواطع في هذا المعتقد على صغر حجمه ، وآثرنا إجراءه على خلاف ما صادفنا من معتقدات الأئمة ؛ وهذا الشرط يلزمنا طرقا من البسط في مسألة الكلام ، وها نحن خائضون فيه.
فصل
اعلم ، أرشدك الله تعالى ، أن المعتزلة ومخالفي أهل الحق قد تخبطوا في حقيقة الكلام.
وها نحن نومئ إلى جمل من ألفاظهم ، ثم نتعقبها بالنقض.
ومما ذكره قدماؤهم : أن الكلام حروف منتظمة ، وأصوات منقطعة ، دالة على أغراض
__________________
(١) اختلفت الخوارج حتى صارت عشرين فرقة ، خرجوا على الإمام علي وقالوا بتكفيره وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين ، ونادوا بالخروج على الإمام الجائر.
(٢) هي فرقة من الشيعة تدعي بأنها من اتباع زيد بن علي زين العابدين عليهماالسلام مع أنه لم يرفض الخليفتين أبا بكر وعمر رضي الله عنهم.
(٣) خالفوا الزيدية وهم خمس عشرة فرقة كما في كتاب «الفرق بين الفرق» منها : الكاملية نسبة إلى أبي كامل الذي كفّر الصحابة لتركهم بيعة علي ، وكفر عليا لتركه قتالهم. والمحمدية الذين ينتظرون محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.