أن كل متعلق بمتعلق مختص به ، لا يعلل اختصاصه ، وإنما اختص لنفسه كما تعلق لنفسه ، وليس يسلم لهم أن الدالّ على كون الإله عالما بكل معلوم ، كونه عالما لنفسه ، وإنما الدال عليه وجه آخر.
ولا محيص من هذه الطّلبة. على أنهم نقضوا ما أسّسوا ، حيث قالوا : الباري تعالى قادر لنفسه ، ثم زعموا أن كونه قادرا لا يتعلق بجميع المقدورات ، فإن مقدورات العباد ليست مقدورة للباري عندهم ، تعالى الله عن قولهم ؛ فهذه صفة نفسية على زعمهم خصّصوها.
فإن قالوا : الكلام حروف منتظمة ، وأصوات متقطعة ، فلا وجه لثبوت التكلم ، صادرا عن النفس ؛ وهذا الذي ذكروه تعويل منهم على ما تقرر الفراغ من إبطاله ، إذ قد أثبتنا كلاما قائما بالنفس ، ليس من قبيل الحروف والأصوات والألحان والنغمات. فهذا القدر مقصدنا من تقديم هذه الطّلبات.
واعلموا بعدها أن الكلام مع المعتزلة ، وسائر المخالفين في هذه المسألة ، يتعلق بالنفي والإثبات ، فإن ما أثبتوه وقدروه كلاما ، فهو في نفسه ثابت ، وقولهم : إنه كلام الله تعالى ، إذ ردّ إلى التحصيل آل الكلام إلى اللغات والتسميات ؛ فإن معنى قولهم : «هذه العبارات كلام الله» أنها خلقه ، ونحن لا ننكر أنها خلق الله ، ولكن نمتنع من تسمية خالق الكلام متكلما به ؛ فقد أطبقنا على المعنى ، وتنازعنا بعد الاتفاق في تسميته.
والكلام الذي يقضي أهل الحق بقدمه ، هو الكلام القائم بالنفس ، والمخالفون ينكرون أصله ولا يثبتونه ، فتنازعوا بعد إثباته في حدثه أو قدمه. فإذا تعرّضنا للحجاج ، كان مساقه إثبات موجود نفوا أصله ، فنقول : قد ثبت كون الباري تعالى متكلما بكلام ، والعقول تقضي باختصاص كلامه به من وجه من الوجوه. ولا حاجة لتكلف إثبات ذلك بالدليل.
ثم لا يخلو الاختصاص المتفق عليه مذهبا المقضى به عقلا : إما أن يكون من حيث كان فعلا للباري ، وإما أن يكون من حيث يختص بصفة أخرى من صفاته النفسية ، أو المعنوية. وقد بطل المصير إلى أن الاختصاص وقوع الكلام فعلا لله تعالى ؛ فإنا قد أوضحنا بما قدمناه وجه الرّدّ على القائلين بأنّ المتكلم من فعل الكلام.
ويبطل تغيير الاختصاص بكون الكلام متعلقا بعلم الله وإرادته أو سمعه ، أو بصره ، فإن هذه الوجوه تتحقق في كلام العباد ، مع اختصاصهم بالاتصاف به.
ولا يستقيم أن يقال : إن الكلام مختص على وجه بصفة نفسية للباري تعالى ، فإن ذلك إجمال ، لا ادّعاء الاختصاص ، ونحن في محاولة إيضاحه على التفصيل ، فقول القائل : الكلام مختص به ، أو بصفة من صفات نفسه على الإجمال ، من غير تعرض ، لتبيين وجه الاختصاص ، لا يتحصّل.
فإذا بطل صرف الاختصاص إلى الجهات المذكورة ، لم يبق بعدها إلا القطع بأن كلام الباري سبحانه وتعالى يختص به اختصاص القيام ، وإذا تقرر ذلك ترتبت عليه استحالة كونه حادثا بقيام