الدليل على استحالة قبوله للحوادث ، ولا يبقى بعد بطلان هذه الأقسام إلا مذهب أهل الحق في وصف الباري تعالى بكونه متكلما بكلام قديم أزلي. وفي طرق الحجاج العقلية متسع ، وفيما ذكرناه مقنع.
فصل
فمما عولوا عليه أن قالوا : إذا أثبتم كلاما أزليّا ، لم يخل بعد ذلك من أمرين ؛ إما أن تقضوا بكون الكلام الأزلي أمرا ، نهيا ، إخبارا ؛ وإما ألا تقضوا بذلك.
فإن زعمتم أنه كان في الأزل أمرا ، نهيا ، إخبارا ، فقد أحلتم ؛ فإن من حكم الأمر والنهي ، أن يصادفا مأمورا ومنهيا ، ولم يكن في الأزل مخاطب متعرض ، لأن يحثّ على أمر ، ويزجر عن آخر ، وليس يعقل أمر لا مأمور له ، ويستحيل كون المستحيل مأمورا.
وإن زعمتم أن الكلام في الأزل لم يكن موصوفا بأحكام أوصاف الكلام ، فقد ذهبتم إلى ما لا يعقل. والكلام على المذهب ، ردّا أو قبولا ، فرع لكونه معقولا. قلنا : قد ذهب عبد الله بن سعيد بن كلّاب رحمهالله (١) من أصحابنا إلى أن الكلام الأزلي لا يتصف بكونه أمرا ، نهيا ، خبرا ، إلا عند وجود المخاطبين واستجماعهم شرائط المأمورين المنهيين.
فإذا أبدع الله العباد ، وأفهمهم كلامه على قضية أمر ، أو موجب زجر ، أو مقتضى خبر ، اتصف عند ذلك الكلام بهذه الأحكام ، وهي من صفات الأفعال عنده ، بمثابة اتصاف الباري تعالى فيما لا يزال بكونه خالقا رازقا محسنا متفضلا.
وهذه الطريقة وإن درأت تشغيبا فهي غير مرضية. والصحيح ما ارتضاه شيخنا رضي الله عنه من أن الكلام الأزلي لم يزل متصفا بكونه أمرا نهيا خبرا ، والمعدوم على أصله ، مأمور بالأمر الأزلي على تقدير الوجود ، والأمر القديم في نفسه على صفة الاقتضاء ، ممن سيكون إذا كانوا. والذي استنكروه من استحالة كون المعدوم مأمورا لا تحصيل له.
والوجه أولا معارضتهم بأصل لهم يصدهم عن هذا الإلزام. وذلك أن مذهبهم أن المأمور به معدوم ، وإذا توجه الأمر على العبد بفعل ، فالفعل قبل وجوده مأمور به. وإذا وجد ، خرج عن كونه مأمورا به في حال حدوثه ، كما خرج إذ ذاك عن كونه مقدورا على أصلهم ، وليس بين النفي والإثبات رتبة. فإذا لم يكن الفعل الثابت مأمورا به ، كان النفي مأمورا به متعلقا بالأمر ؛ فإذا لم يبعدوا مأمورا به معدوما ، لم يستقم منهم استبعاد مأمور معدوم.
وما ذكروه أبعد ؛ فإنا نجوز كون المعدوم مأمورا على تقدير الوجود ، وإذا وجد تحقق كونه
__________________
(١) هو ابن سعيد أو ابن محمد كما في طبقات الشافعية (٢ / ٥١) ابن كلاب أحد أئمة المتكلمين من أهل السنة. وتوفي بعد عام ٢٤٠ ه بقليل.