مأمورا ، ونمنع تقدير معدومه علم الباري تعالى أنه لا يوجد مأمورا ويستحيل وجوده مأمورا ، فما كان كذلك لم يتعلق به أمر التكليف. والمعتزلة قضوا بأن المعدوم مأمور به ، وهو يخرج عند الوجود عن كونه مأمورا به. وهذا تمحيص منهم لتعلق العلم بالعدم.
ثم نقول : قد اتفق المسلمون قاطبة على أننا في وقتنا مأمورون بأمر الله ، ومذهب جماهير المعتزلة أنه ليس للرب تعالى في وقتنا كلام ، وأن ما وجد من كلامه ، قد عدم ؛ فإذا لم يستبعدوا كوننا مأمورين ، ولا أمر ، لم يبق لهم مضطرب فيما ذكروه.
ثم الرب سبحانه في أزله كان قادرا ، ومن حكم كون القادر قادرا أن يكون له مقدور ، والمقدور هو الجائز الممكن ، وإيقاع الأفعال في الأزل مستحيل متناقض. فإذا لم يبعد كونه قادرا أزلا ، مع اختصاص وقوع المقدور بما لا يزال ، لم يبعد أن يتصف بكلام هو اقتضاء ممن سيكون.
ومما يستروحون إليه أن قالوا : قد أجمع المسلمون قبل ظهور هذا الخلاف على أن القرآن كلام الله سبحانه ، واتفقوا على أنه سور وآيات وحروف منتظمة وكلمات ، وهي مسموعة على التحقيق ولها مفتتح ومختتم. وهي معجزة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والآية على صدقه ، والمعجزة لا تكون إلا فعلا خارقا للعادة ، واقعا على حسب تحدي النبي صلىاللهعليهوسلم. ويستحيل أن يكون القديم معجزا ، إذ لا اختصاص للصفة الأزلية ببعض المتحدين دون بعض ؛ ولو جاز تقدير كلام قديم قائم بالنفس أزلي معجزا ، لجاز تقدير العلم القديم عند مثبتيه معجزا.
وهذا الذي ذكروه تخيلات لا تحصيل لها. فأما تشغيبهم بأن القرآن في إجماع المسلمين سور وآيات ، ولها أوائل وفواصل ومطالع ومقاطع ؛ فنقول لهم : أولا ، مذهب جماهيركم أنه كلام الله تعالى إذ خلقه كان أصواتا ، ثم تصرمت وانقضت ، والمتلوّ المحفوظ المكتوب ليس بكلام الله ، وهذا مذهب كل من يتحذق من متأخريهم. والمصير إلى نفي كلام الله تعالى ، أبشع وأشنع من المماراة في صفة الكلام.
ولما استشعر الجبائي ذلك ، وأيقن أنه يلزم لو قال بهذا المذهب خرق إجماع الأمة ، أبدع مذهبا خرق به حجاب الهيبة وركب جحد الضرورات ، وقال كلام الله تعالى يوجد مع قراءة كل قارئ. ثم الكلام عنده حروف تقارن الأصوات المتقطعة على مخارج الحروف ، وليست هي أصواتا ، وزعم أنها توجد عند الكتابة ؛ فإذا اتسقت الحروف المنظومة ، والرسوم المرقومة ، وجدت حروف قائمة بالمصحف ليست الأشكال البادية والأسطر الظاهرة. ثم زعم أن الحروف تسمع عند القراءة وإن لم تكن أصواتا ، ولا ترى عند ثبوت الأسطر.
وقال أيضا : من قرأ كلام الله تعالى تثبت مع لهواته حروف هي قراءته ، وهي مغايرة للأصوات ، وحروف هي كلام الله وهي مغايرة للقراءة والأصوات ، وإذا أضرب القارئ عن القراءة عدم عنه كلام الله تعالى وهو بعينه موجود قائم بغيره.