ومن شنيع مذهبه أنه قال : إذا اجتمع طائفة من القراء على تلاوة آية فيوجد بكل واحد منهم كلام الله ، والموجود بالكل كلام واحد. ونفس نقل هذا المذهب يغني اللبيب عن تكلف الرد عليهم.
وأما تحكمه بإثبات حروف مغايرة للأصوات ، فخروج عن قضية العقل وإبداع مذهب لا شاهد له ، والحروف في تعارف العقلاء أنفس الأصوات المتقطعة. ثم إذا ساغ ادعاء إدراك ما ليس بصوت عند صوت ، فما المانع من ادعاء رؤية الحروف عند انتظام الرسوم واتساق الرقوم في الأسطر المثبتة؟
وأما المصير إلى قيام الكلام الواحد بمحال فجحد للضرورة ، ولا يستريب فيه محصل ، وهذا المعتقد لا يسع استقصاء الرد عليه.
ومن فضائح مذهبه ، مصيره إلى أن العبد يلجئ الرب إلى خلق الكلام عند إيثاره اختراع الأصوات والنغمات. وهذه فضائح بادية لا يبوح بها عاقل.
ثم نقول بعد معارضتهم : قد زعمتم أن القرآن كلام الله ، وإذا روجعتم في معنى إضافة الكلام إلى الباري تعالى لم تبدوا وجها في الاختصاص سوى كونه فعلا له ، والذي زعمتم أنه فعله فأنتم مساعدون عليه من مذهبنا ، وهو أقصى غرضكم بإضافة الكلام إلى الله تعالى. فقد تساوت الأقدام في إضافة الكلام إلى الله تعالى وبقي تنازع في تسميات وإطلاقات ، وليس من البعيد عندنا إضافة فعل الله تعالى إليه إذا استقر الشرع على الإذن فيه ، وهذا يدرأ عنا جميع ما شغبوا به.
ثم ، القرآن قد يحمل على القراءة ، ويقدّر مصدرا لقرأ ، ويشهد لذلك قول القائل ، وهو حسان بن ثابت يمدح عثمان رضي الله عنه :
ضحوا بأشمط عنوان السجود به |
|
يقطع الليل تسبيحا وقرآنا |
معناه يقطع الليل تسبيحا وقراءة. وقد سمى الرب تعالى الصلاة قرآنا لاشتمالها على القراءة ، فقال عزا اسمه : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [سورة الإسراء : ٧٨]. ومعناه أن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل والنهار صاعدين وهابطين. وفي مأثور الأخبار أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما أذن الله لشيء إذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن» معناه حسن الترنم بالقراءة.
وأما ما ذكروه من إجماع المسلمين على كون القرآن معجزة للرسول ، مع القطع بانحصار المعجزات في الأفعال الخارقة للعادة ، فنقول لهم : أولا ، من أصلكم أن ما تحدى به النبي عليهالسلام العرب ، وهم اللّسن الفصحاء واللّدّ البلغاء ، لم يكن كلام الله تعالى ، وما خلقه الرب تعالى لنفسه كان إذ ذاك منقضيا ، وإنما تحدى الرسول عليهالسلام بمثله ، فأنتم أحق بمراغمة الإطباق من خصومكم من هذا الوجه ، ومن تصريحكم بأن كل قارئ آت بمثل كلام الله تعالى ؛ فالرب عز اسمه قال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [سورة الإسراء : ٨٨].
ثم ما يدلون به هم عليه مساعدون ومساهمون ؛ فإنهم زعموا أن كلام الله معجزة للرسول عليه