وأصلهم أن الأصوات ، على تقطّعها وتواليها ، كانت ثابتة في الأزل ، قائمة بذات الباري ، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا. وقواعد مذهبهم مبنية على جحد الضرورات ؛ فإنهم أثبتوا للكلام القديم على زعمهم ابتداء وانتهاء ، وجعلوا منه سابقا ومسبوقا ، فإن الحرف الثاني من كل كلمة مسبوق بالمتقدم عليه ، وكل مسبوق مبتدأ وجوده ، وباضطرار نعلم كون المفتتح وجوده حادثا.
ولا خفاء بمراغمتهم لبديهة العقول في حكمهم ، بانقلاب الحادث قديما.
ومما يقرر افتضاحهم في مناكرة الحقائق ، أن الحروف لو مثّلت من بعض الجواهر فهي عين كلام الله تعالى عندهم ، والحديد الذي صيغت منه الحروف خارج عن كونه حديدا ، ونحن ندرك زبر الحديد متآلفة جسما ، فكيف تسوغ محاجة قوم هذه غايتهم؟!
ثم جهلتهم يصممون على أن اسم الله إذا كتب ، فالرقم المرئي في الكتابة هو الإله بعينه ، وهو المعبود الذي يصمد إليه.
ثم أصلهم أن الكلام القديم يحل الأجسام ولا يفارق الذات ، وهذا تلاعب بالدين ، وانسلال عن ربقة المسلمين ، ومضاهاة لنصّ مذهب النصارى في مصيرهم إلى قيام الكلمة بالمسيح ، وتدرّعها بالناسوت. ولو لا اغترار كثير من العوام بالاعتزاء إلى هؤلاء ، لاقتضى الحال الإضراب عن التعرض لهذه العورات البادية ، والفضائح المتمادية.
فصل
القراءة عند أهل الحق أصوات القراء ونغماتهم ، وهي أكسابهم التي يؤمرون بها في حال إيجابا في بعض العبادات ، وندبا في كثير من الأوقات ؛ ويزجرون عنها إذا أجنبوا ، ويثابون عليها ويعاقبون على تركها ، وهذا مما أجمع عليه المسلمون ، ونطقت به الآثار ، ودل عليه المستفيض من الأخبار. ولا يتعلق الثواب والعقاب ، إلا بما هو من اكتساب العباد. ويستحيل ارتباط التكليف والترغيب والتعنيف بصفة أزلية ، خارجة عن الممكنات وقبيل المقدورات.
والقراءة هي التي تستطاب من قارئ ، وتستبشع من آخر ، وهي الملحونة ، والقويمة المستقيمة ، وتتنزه عن كل ما ذكرناه الصفة القديمة ؛ ولا يخطر لمن لازم الإنصاف أن الأصوات التي يبح لها حلقه ، وتنتفخ على مستقرّ العادة منها أوداجه ، ويقع على حسب الإيثار والاختيار ، محرفا ، وقويما ، وجهوريا ، وخفيا نفس كلام الله تعالى ، فهذا القول في القراءة.
فصل
فأما المقروء بالقراءة فهو المفهوم منها المعلوم ، وهو الكلام القديم الذي تدل عليه العبارات ، وليس منها.