ومما يسأل عنه قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [سورة الفجر : ٢٢] ، وكذلك قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [سورة البقرة : ٢١٠] ؛ وليس المعنيّ بالمجيء الانتقال والزوال ، تعالى الله عن ذلك ؛ بل المعنيّ بقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) ، أي جاء أمر ربك وقضاؤه الفصل وحكمه العدل.
ومن شائع الكلام التعبير عن الأمر بذي الأمر في إرادة التعظيم ؛ إذ يقال : إذا جاء الأمير بطل من سواه ، وليس الغرض انتقاله ، بل المراد اتصال نوافذ أوامره وزواجره. وإذا كان للتأويل مجال رحب ، وللإمكان مجرى سهب ، فلا معنى لحمل الآية على ما يقتضي تثبيت دلالات الحدث.
ومما يجب الاعتناء به معارضة الحشوية بآيات يوافقون على تأويلها ، حتى إذا سلكوا مسلك التأويل ، عورضوا بذلك السبيل فيما فيه التنازع ؛ فمما يعارضون به قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد : ٤] فإن راموا إجراء ذلك على الظاهر ، حلوا عقد إصرارهم في حمل الاستواء على العرش على الكون عليه ، والتزموا فضائح لا يبوء بها عاقل. وإن حملوا قوله : «هو معكم أينما كنتم» ، وقوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) [سورة المجادلة : ٧] ، على الإحاطة بالخفيات ، فقد تسوغوا التأويل ، وهذا القدر في ظواهر القرآن كاف.
وأما الأحاديث التي يتمسكون بها ، فآحاد لا تفضي إلى العلم ، ولو أضربنا عن جميعها لكان سائغا ، لكنا نومئ إلى تأويل ما دون منها في الصحاح. فمنها حديث النزول ، وهو ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة جمعة ويقول : هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيب له؟» (١) الحديث. ولا وجه لحمل النزول على التحول ، وتفريغ مكان وشغل غيره ، فإن ذلك من صفات الأجسام ونعوت الأجرام. وتجويز ذلك يؤدي إلى طرفي نقيض ، أحدهما الحكم بحدوث الإله ، والثاني القدح في الدليل على حدوث الأجسام.
والوجه حمل النزول ، وإن كان مضافا إلى الله تعالى ، على نزول ملائكته المقربين ، وذلك سائغ غير بعيد. ونظير ذلك قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [سورة المائدة : ٣٣] ، معناه إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله ، ولا يبعد حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه تخصيصا.
ومما يتجه في تأويل الحديث أن يحمل النزول على إسباغ الله نعماءه على عباده مع تماديهم في العدوان وإصرارهم على العصيان ، وذهولهم في الليالي عن تدبر آيات الله تعالى ، وتذكر ما هم بصدده من أمر الآخرة. وقد يطلق النزول في حق الواحد منا على إرادة التواضع ؛ فيقال : نزل الملك عن كبريائه إلى الدرجة الدنيا ، إذا حلم على رعيته ، وانحط عن سطوته ، مع تمكنه من تشديد الوطأة عليهم.
ومن الدليل على أن النزول ليس من شرطه الانتقال ، إطلاق النزول مضافا إلى القرآن ، مع العلم باستحالة انتقال الكلام كما سبق.
__________________
(١) رواه أحمد في مسنده (٣ / ٣٤ ، ٤٣ ، ٩٤).