والثالث : الإدراك المتعلق بالرّوائح ، والرابع : الإدراك المتعلق بالطعوم ، والخامس ؛ الإدراك المتعلق بالحرارة والبرودة واللين والخشونة. والحاسة في اصطلاح المحققين هي الجارحة التي يقوم ببعضها الإدراك ، وقد يعبر بالشمّ واللمس والذوق عن الإدراكات تجوزا.
وهذه العبارات منبئة عند المحصلين عن اتصالات بين الحواس وبين أجسام تدرك ، ويدرك أعراض لها. وليست الاتصالات إدراكات ولا شرائط فيها ، وإن استمرت العادات بها. والدليل عليه أنك تقول شممت الشيء فلم أدرك ريحه ، وذقته فلم أجد طعمه ، ولمسته فلم أدرك حرارته. وذلك يحقق أنه ليس المراد بها في الإطلاق أنفس الإدراكات.
وعدّ أئمتنا رضي الله عنهم من الإدراكات وجدان الحي من نفسه الآلام واللذات ، وسائر الصفات المشروطة بالحياة. ولا سبيل إلى القول بأن وجدان هذه الصفات هو العلم بها ؛ فإن الإنسان قد يضطر إلى العلم بتألم غيره ، ويجد من نفسه الألم المختص به ، ويفرق ببديهة عقله بين وجدانه ذلك من نفسه وبين علمه بألم غيره.
فصل
اتفق أهل الحق على أن كل موجود يجوز أن يرى. وذهب المحققون منهم إلى أن كل إدراك ، يجوز تعلقه بقبيل الموجودات في مجرى العادات ، فسائغ تعلقه في قبيله بجميع الموجودات. والمصحح لكون الشيء بحيث أن يدرك هو الوجود ، ويطرد ذلك في جميع الإدراكات ، على ما سنبينه بالحجاج إن شاء الله عزوجل.
وقد تتصل أطراف الكلام بما لا يستغني المسترشد عن الإحاطة به ، وذلك أن قائلا لو قال : هل يجوز أن يدرك المدرك إدراك نفسه ، فالمرضي عندنا أنه يجوز أن يدرك المدرك إدراك نفسه ، وإن لم يدركه فإنما لم يدركه لمانع ينافي إدراك الإدراك ، فيكون منعا منه ومنعا من تقدير أن يدركه في نفسه. وهل يجوز أن يتعلق إدراك الغير بإدراك غيره وموانعه؟ وهذا من الدقيق الذي لا يتأتى بسطه هاهنا.
فصل
كل ما يجوز أن يدرك فإذا لم يدركه المدرك. فإنما لم يدركه لقيام مانع به مضاد لإدراك ما يجوز أن يدركه. وتتعدد الموانع حسب تعدد تقدير الإدراكات ، وهي متناهية الإعداد ، إذ لا تنتفي النهاية عن أعداد المدركات.
وقد أنكرت المعتزلة الموانع التي أثبتناها مضادة للإدراكات. وزعموا أن الموانع منها القرب والبعد المفرطان ، وعدم انبعاث الشعاع على شكل السداد ، وعدم اتصاله بالمرئي. والحجب الكثيفة