تلك الحاسة اعتمادات توجب دفع الأشعة ، فذلك بناء على فاسد أصلهم في التولد وهم غير مساعدين عليه. ثم عندهم أن الاعتمادات اللازمة تكون سفلية كاعتمادات الثقيل ، وعلوية ، كاعتمادات لهيب النار إذا اضطرمت ، فأما سائر الجهات فالاعتمادات فيها مجتلبة مكتسبة ؛ والناظر ليس بمجتلب اعتمادا على جهة ، كما يجتلبه إذا حاول دفع ثقيل يمنة أو يسرة.
فإن قالوا : إنما ينبعث الشعاع بحركات الحدقة والأجفان ، فذلك محال ، فإن من تصطلم أجفانه يرى إذا سكن حدقته ، فإذا ثبت أنه ليس لانبعاث الأشعة موجب وإن عدّ من خلق الله ، فيلزم أن يقدر جواز عدم خلقة ، حتى يجوز أن يفتح الحي المدرك غير المئوف عينه وترتفع الحواجز ولا يريد الرب تعالى انبعاث الشعاع ولا يرى إذ ذاك شيئا ، وهو من أمحل المحال عند القوم.
ومما يصعب موقعه عليهم أن نقول : لئن كان الجوهر يرى لاتصال الشعاع به ، فما بال لونه يرى وهو عرض ، وقد رئي ، ولا يجوز الاتصال بالأعراض.
فإن قالوا : إنما يرى ما يتصل به الشعاع ، أو ما يقوم بما يتصل به الشعاع ؛ فنقول : مفاد ذلك يلزمكم جواز رؤية الطعوم والروائح ، لأنها تقوم بما يتصل به الشعاع.
ونقول لهم أيضا : عندكم أن الجوهر الفرد لو مثل في سمت الشعاع لما رئي ، وقد اتصل الشعاع على امتداده به ، ولو قدرتنا انضمام جواهر إليه لما خصه من الشعاع إلا ما اتصل به إذا قدر فردا ، وكل ذلك دال على بطلان انبعاث الأشعة من الناظر واتصالها بالمرئيات.
وإذا استدلّ المخالفون ، على ما اعتقدوه من انبعاث الأشعة من الناظر ، واتصالها بالمرئيات ، بما قدمناه في صدر الفصل ، وما يستروحون إليه من ذكر القرب والبعد ، وتعريج الأشعة وانعكاسها عن الأجسام الصقيلة ، فليس في شيء مما ذكروه مستروح.
وإيجاز الجواب عن جميع ما يتمثلون به ، أن نقول ؛ لم ادّعيتم حمل ثبوت الرؤية تارة وانتفائها أخرى ، على ظنونكم في انبعاث الأشعة واتصالها؟ وبم تردون قول من يقول : كل ما تنفونه وتثبتونه يرجع إلى استمرار العادات على قضية أرادها الله عليها ، وسبيلها كسبيل استعقاب الأكل والشرب ، الشبع ، والرّيّ ، وإن لم يكونا موجبين لهما؟ ولو انخرقت العادة الجارية ، لجاز رؤية البعيد المفرط البعد ، والقريب المتداني.
ويجوز أيضا رؤية ما وراء الحجاب ، وإذا طولبوا بذلك لم يرجعوا إلا إلى استبعاد محض لا محصول له ، والوجه معارضتهم بكل ما يوافقون على أنه موجب العادات المستمرة.
فصل
الإدراكات خمسة : أحدها البصر المتعلق بقبيل المرئيات ، والثاني السمع المتعلق بالأصوات ،