فإذا صح منك النظر ، واستدّت (١) منك العبر ، أفضت بك إلى العلم. وإن نظر كما رسم له ، وأنكر أداء صحيح النظر إلى العلم ، فقد تبين عناده ، وسقط استرشاده.
فصل
النظر يضاد العلم بالمنظور فيه ، ويضاد الجهل به ، والشك فيه. فوجه مضادته للعلم أنه بحث عنه وابتغاء توصل إليه ، وذلك يناقض تحقق العلم ، إذ الحاصل لا يبتغى. وسبيل مضادته للجهل ، أن الجهل اعتقاد يتعلق بالمعتقد على خلاف ما هو به ، والموصوف به مصمم عليه ، وذلك يناقض التطلب والبحث. والتشكك تردد بين معتقدين ، والنظر بغية للحق. فهو إذا مضاد للعلم وجملة أضداده.
فصل
النظر الصحيح إذا تمّ على سداده ، ولم تعقبه آفة تنافي العلم ، حصل العلم بالمنظور فيه على الاتصال بتصرّم النظر. ولا يتأتى من الناظر جهل بالمدلول عقيب النظر مع ذكره له ، ولا يولّد النظر العلم ، «ولا يوجبه إيجاب العلة معلولها». وزعمت المعتزلة (٢) أنه يولده. ووافقونا على أن تذاكر النظر لا يولد العلم ، وإن كان يتضمنه. وسيرد أصل التولد في موضعه إن شاء الله عزوجل.
فإن قالوا : إذا كان النظر لا يولد العلم ، ولا يوجبه إيجاب العلة معلولها ، فما معنى تضمنه له؟ قلنا : المراد بذلك أن النظر الصحيح إذا استبق ، وانتفت الآفاق بعده ، فيتيقن عقلا ثبوت العلم بالمنظور فيه ؛ فثبوتهما كذلك حتم من غير أن يوجب أحدهما الثاني أو يوجده أو يولده ، فسبيلهما كسبيل الإرادة لشيء مع العلم به ، إذ لا تتحقق إرادة الشيء من غير علم به. ثم تلازمهما لا يقضي بكون أحدهما موجدا ، أو موجبا ، أو مولدا.
فصل
النظر الصحيح يتضمن العلم كما سبق ، والنظر الفاسد لا يتضمن علما ، وكما لا يتضمنه فكذلك لا يتضمن جهلا ولا ضدا من أضداد العلم سواه ؛ فإن النظر الصحيح يطلع الناظر على وجه
__________________
(١) استدّ الشيء أي استقام.
(٢) رأسهم واصل بن عطاء الغزال ، أول من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين ، فطرده الحسن البصري من مجلسه فاعتزل إلى سارية من سواري مسجد البصرة فقيل له ولأتباعه (معتزلة). ولد سنة ٨٠ ه ـ وتوفي سنة ١٣١. انظر الفرق بين الفرق.