كبيرا ، قال ابن جرير وغيره : والطوائف الثلاثة من الملكية واليعقوبية والنسطورية تقول بهذه الأقانيم ، وهم مختلفون فيها اختلافا متباينا ليس هذا موضع بسطه ، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى ، والحق أن الثلاثة كافرة (١).
وقال السدي وغيره : نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله ، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار ، قال السدي : وهي كقوله تعالى في آخر السورة (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ) [المائدة : ١١٦] (٢) ، وهذا القول هو الأظهر ـ والله أعلم ـ قال الله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي ليس متعددا بل هو وحده لا شريك له ، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات ، ثم قال تعالى متوعدا لهم ومتهددا (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) أي من هذا الافتراء والكذب (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي في الآخرة من الأغلال والنكال ، ثم قال (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم ، وهذا الافتراء والكذب والإفك ، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة ، فكل من تاب إليه تاب عليه.
وقوله تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي له سوية أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه ، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام ، كما قال (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [الزخرف : ٥٩]. وقوله (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) أي مؤمنة به مصدقة له ، وهذا أعلى مقاماتها ، فدل على أنها ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ، ونبوة أم موسى ، ونبوة أم عيسى ، استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم ، وبقوله (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] وهذا معنى النبوة ، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال ، قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩] وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمهالله الإجماع على ذلك.
وقوله تعالى : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) أي يحتاجان إلى التغذية به ، وإلى خروجه منهما ، فهما عبدان كسائر الناس ، وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، ثم قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) أي نوضحها ونظهرها (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون ، وبأي قول يتمسكون ، وإلى أي مذهب من الضلال يذهبون.
__________________
(١) قال ابن جرير : وهذا (أي قولهم : إن الله ثالث ثلاثة) قول كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكية والنسطورية. كانوا فيما بلغنا يقولون : الإله القديم جوهر واحد يعمّ ثلاثة أقانيم : أبا والدا غير مولود ، وابنا مولودا غير والد ، وزوجا متتبّعة بينهما. (تفسير الطبري ٤ / ٦٥٢)
(٢) الأثر عن السدي في تفسير الطبري ٤ / ٦٥٣.