هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» ورواه البخاري (١) عند هذه الآية عن أبي الوليد ، عن شعبة ، وعن محمد بن كثير ، عن سفيان الثوري ، كلاهما عن المغيرة بن النعمان به.
وقوله (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عزوجل ، فإنه الفعال لما يشاء ، الذي لا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون ، ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله وعلى رسوله ، وجعلوا لله ندا وصاحبة وولدا ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، وهذه الآية لها شأن عظيم ، ونبأ عجيب ، وقد ورد في الحديث : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها.
قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن فضيل ، حدثني فليت العامري ، عن جسرة العامرية ، عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : صلى النبي صلىاللهعليهوسلم ذات ليلة ، فقرأ بآية حتى أصبح ، يركع بها ويسجد بها (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فلما أصبح ، قلت : يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية ، حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال «إني سألت ربي عزوجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها ، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا».
[طريق أخرى وسياق آخر] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، حدثنا قدامة بن عبد الله ، حدثتني جسرة بنت دجاجة أنها انطلقت معتمرة ، فانتهت إلى الربذة ، فسمعت أبا ذر يقول : قام رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء ، فصلى بالقوم ، ثم تخلف أصحاب له يصلون ، فلما رأى قيامهم وتخلفهم ، انصرف إلى رحله ، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان ، رجع إلى مكانه يصلي ، فجئت فقمت خلفه ، فأومأ إليّ بيمينه ، فقمت عن يمينه ، ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه ، فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله ، فقمنا ثلاثتنا. يصلي كل واحد منا بنفسه ، ونتلو من القرآن ما شاء الله أن نتلو ، وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلّى الغداة ، فلما أصبحنا اومأت إلى عبد الله بن مسعود ، أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة ، فقال ابن مسعود بيده (٣) : لا أسأله عن شيء ، حتى يحدث إليّ ، فقلت : بأبي وأمي ، قمت بآية من القرآن ومعك القرآن ، لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه ، قال «دعوت لأمتي» ، قلت : فماذا أجبت أو ماذا رد عليك؟ قال «أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة» قلت : أفلا أبشر الناس؟ قال «بلى» فانطلقت معنقا ، قريبا من قذفة بحجر ، فقال عمر : يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا نكلوا عن العبادات ، فناداه أن «ارجع» فرجع ، وتلك الآية (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
__________________
(١) صحيح البخاري (تفسير سورة المائدة باب ١٣)
(٢) مسند أحمد ٥ / ١٤٩.
(٣) قال بيده : أشار.