أنه قال ذلك ، وهذا غريب جدا ، وخلاف ظاهر الآية ، وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية ، والله أعلم.
وقال آخرون : لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك ، فإن الإدراك أخص من الرؤية ، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو؟ فقيل معرفة الحقيقة ، فإن هذا لا يعلمه إلّا هو ، وإن رآه المؤمنون ، كما أن من رأى القمر ، فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته ، فالعظيم أولى بذلك ، وله المثل الأعلى. قال ابن علية في الآية : هذا في الدنيا رواه ابن أبي حاتم.
وقال آخرون : الإدراك أخص من الرؤية ، وهو الإحاطة ، ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية ، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم ، قال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) وفي صحيح مسلم «لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» (١) ولا يلزم منه عدم الثناء فكذلك هذا.
قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) قال لا يحيط بصر أحد بالملك ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد ، حدثنا أسباط ، عن سماك ، عن عكرمة ، أنه قيل له (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) قال ألست ترى السماء؟ قال بلى ، قال فكلها ترى ، وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في الآية (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) وهو أعظم من أن تدركه الأبصار.
وقال ابن جرير (٢) : حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا خالد بن عبد الرحمن ، حدثنا أبو عرفجة ، عن عطية العوفي في قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] قال هم ينظرون إلى الله ، لا تحيط أبصارهم به ، من عظمته ، وبصره محيط بهم ، فذلك قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ).
وورد في تفسير هذه الآية حديث رواه ابن أبي حاتم هاهنا ، فقال : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا منجاب بن الحارث السهمي ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) قال «لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا ، صفوا صفا واحدا ، ما أحاطوا بالله أبدا» غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه ، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة ، والله أعلم.
وقال آخرون في الآية بما رواه الترمذي في جامعه ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة له ، وابن أبي حاتم في تفسيره ، وابن مردويه أيضا ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الحكم بن
__________________
(١) صحيح مسلم (صلاة حديث ٢٢)
(٢) تفسير الطبري ٥ / ٢٩٤.