[حديث آخر] قال أبو عيسى الترمذي (١) : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، أخبرني ابن أبي الزناد عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم الأسلمي قال : لما نزلت (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم ، لأنهم وإياهم أهل كتاب ، وفي ذلك قوله الله : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) وكانت قريش تحب ظهور فارس ، لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ، ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية ، خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) قال ناس من قريش لأبي بكر : فذاك بيننا وبينكم ، زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال : بلى ، ودلك قبل تحريم الرهان.
فارتهن أبو بكر والمشركون ، وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين ، فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه؟ قال : فسموا بينهم ست سنين ، قال : فمضت ست السنين قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس : فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين ، قال : لأن الله قال في بضع سنين ، قال : فأسلم عند ذلك ناس كثير. هكذا ساقه الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن صحيح ، لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد.
وقد روي نحو هذا مرسلا عن جماعة من التابعين مثل عكرمة والشعبي ومجاهد وقتادة والسدي والزهري وغيرهم ، ومن أغرب هذه السياقات ما رواه الإمام سنيد بن داود في تفسيره حيث قال : حدثني حجاج عن أبي بكر بن عبد الله عن عكرمة قال : كان في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال ، فدعاها كسرى فقال : إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك ، فأشيري علي أيهم أستعمل؟! فقالت : هذا فلان وهو أروغ من ثعلب ، وأحذر من صقر ، وهذا فرخان وهو أنفذ من سنان ، وهذا شهريراز وهو أحلم من كذا ، تعني أولادها الثلاثة ، فاستعمل أيهم شئت ، قال : فإني قد استعملت الحليم ، فاستعمل شهريراز فسار إلى الروم بأهل فارس ، فظهر عليهم فقتلهم وخرب مدائنهم ، وقطع زيتونهم.
قال أبو بكر بن عبد الله : فحدثت بهذا الحديث عطاء الخراساني فقال : أما رأيت بلاد الشام؟ قلت : لا ، قال أما إنك لو رأيتها لرأيت المدائن التي خربت والزيتون الذي قطع ، فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته. قال عطاء الخراساني : حدثني يحيى بن يعمر أن قيصر بعث رجلا يدعى قطمة بجيش من الروم ، وبعث كسرى شهريراز فالتقيا بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى الشام
__________________
(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٠ ، باب ٤.